ينشر موقع الأئمة الاثني عشر مقالاً جديداً لسماحة آية الله السيد محمد باقر السيستاني حول النقد الساخر للمسائل الدينية وطرق موجهتها، أدناه نص المقال كما ورد:
النقد الساخر: قيمته، وتأثيره، وكيفية التعامل معه
السؤال:
يجد الشاب انتشار السخرية في المسائل الدينية والأخلاقية والابتعاد عن الطرح الموضوعي وخاصةً في الواقع الافتراضي، ما هي التوصية حول هذه الظاهرة وما هي طرق المواجهة والعلاج؟
الجواب:
إنّ من البديهي بحسب المنطق الذي فُطر عليه الإنسان أن الاحتجاج السليم يبتني على حجج وشواهد موضوعية تثبت أو تنفي هذه الفكرة أو تلك، وليس الازدراء والسخرية ونحوها من الأساليب الهزلية سبيلاً للاستيثاق من صواب هذه الفكرة أو تلك، فالأفكار المعروضة تقيم من خلال أفكار أخرى تكون أقرب تناولاً وأشد وضوحاً لينتهي الباحث من تلك الأفكار الأخرى إلى إثبات الأفكار المعروضة أو تفنيدها، وهذا هو السبيل المنطقي للإقناع والاقتناع.
وأما أسلوب السخرية والاستهزاء فهو ـــ كما نجده عند تحليل بنيته وتأمل مضمونه ـــ لا يركز على فكرة موضوعية واضحة تبطل الفكرة التي يسخر منها، وإنما يسعى إلى أن تهون تلك الفكرة في مشاعر المخاطب بأساليب خطابية وأدبية بحتة، كأن يسعى شخص إلى إسقاط شخصية آخر ولكنه لا يتناول أفكاره وسيرته وخصاله بالنقد، بل يسبّه ويسخر منه ويرسمه بشكل مضحك.
وقد شاع في الوسائل الحديثة في العصر الحاضر اتّباع هذا الأسلوب في شأن القضايا الأخلاقية والدينية حتى باتت تستعمله جل وسائل الإعلام وأصبح من الأساليب الشائعة لتغيير الثقافات والأخلاقيات العامة وذلك لعدة خصائص فيه:
أوّلاً: أنه أسلوب سهل لا عناء فيه، إذ يكفي فيه أن يتقن المرء كيفية الانتقاص والتوهين والاستخفاف وهو أمر ميسر لمن تعود عليه، ولا يحتاج إلى عناء البرهان والاستدلال والبحث والتفحص والنقد الموضوعي.
ثانياً: أنه سريع التأثير في المخاطب، لأنه ينفذ فيه من مداخل العاطفة والإحساس ولا يحتاج إلى تأمل وتريث وتفكير، إلا إذا كان المخاطب موزوناً في داخله غير منساقٍ للّعب بعواطفه.
ثالثاً: أنه أسلوب ناعم يمزج الجد بالهزل والفكر بالمرح والعلم باللعب، فلا يأخذ المخاطب أهبته لاتخاذ الرأي وتحديد الموقف، بل يتأثر به من حيث لا يحتسب من دون مقاومة وتأكد، فهو يمرر مواقف جادة من خلال أساليب لاهية ينزلق إليه الشخص انزلاقاً ويُستدرج إليه استدراجاً.
رابعاً: أن المخاطب كثيراً ما يتعرض فيه إلى الإحراج للاقتناع، لأنه يجد نفسه في موضع السخرية والاستهزاء والانتقاص والتحقير إذا ما تبنى الفكرة التي تمّ الاستهزاء بها والسخرية منها، فيدفعه ذلك إلى رفع اليد عنها وقايةً لنفسه وحفظاً لاحترامه أمام المتكلم والآخرين.
خامساً: أنه لا دفاع نافع في مقابل السخرية والاستهزاء بالفكرة، إذ ليس مبنى السخرية نقد الفكرة بفكرة حتى تكون الفكرة المعروضة قابلة للنقاش، بل هو نحو توهين واستخفاف فحسب وهو أمر لا مردّ له، كما قال الشاعر في شأن بعض الدعاوي الكاذبة على الشخص التي توجب الشعور بالتقزز من تناول الطعام معه:
(قد قيل ذلك إن صدقاً وإن كذباً
فما اعتذارك من قولٍ إذا قيلا).
سادساً: أن السخرية والاستهزاء ينفع في إزالة القناعات التي يصعب قلعها لكونها فطرية أو موثوقةً أو راسخةً في نفس الطرف رسوخاً كبيراً، وهي أمور يستحيل إزالة القناعة بها بالأساليب الجادة لاشتمال الفطرة عليها وتواتر حججها ولكن يمكن للسخرية أن تزلزلها وتقتلعها وتوجب انهيارها إذا لم يملك المخاطب وعياً في التعامل معها ولم يأخذ حذره تجاهها.
فالسخرية لن تسقط الفكرة أو الشخص من خلال النقد الفكري، بل من خلال التوهين والاستخفاف، حتى يخجل صاحب الفكرة من تبنيها مهما كانت فطريةً وراشدةً ورصينةً ومتجذرةً في نفسه، وحتى يسقط حرمة الشخص المنظور مهما كان محترماً وموزوناً ومتيناً وموصوفاً بالسلوك القويم والسوابق الحسنة.
هذه خصائص أسلوب السخرية التي تغري أصحابها باستخدامها في نقد الأفكار ومناقشتها بدلاً عن النقد الفكري الحقيقي المبني على التأمل والملاحظة.
والواقع أن هذا الأسلوب هو أسلوب مؤثر بالفعل في نفوس العديد من الناس لتغيير قناعاتهم، إلا أن تأثيره محصور على الذين لا يملكون فكراً ثاقباً ووعياً كافياً، فيستجيبون في موضع المنطق للعاطفة، وفي محل التفكير للإحساس وفي مقام التثبت والتروي للتسرع والاندفاع فيكون هذا الأسلوب عندهم بديلاً عن البرهان والحجة والمنطق الجاد.
وتفصيل ذلك: أن هذا الموضوع ينتمي إلى بحث عام حول مناهج إثبات الأفكار وتفنيدها([1])، وهي تنقسم إلى أقسام ثلاثة:
الأوّل: المنهج الموضوعي، ومن صفات هذا المنهج:
1 ـــ أنه يستند إلى العلائق الموضوعية بين الأشياء وإلى الشواهد الاستقرائية وما تمثلها من قرائن ومؤشرات متراكمة على الواقع.
2 ـــ أن هذا المنهج يخاطب العقل ويحفز الوعي وينير التفكير ويبتعد عن استغلال المشاعر والعواطف والأحاسيس في مقام الإقناع.
3 ـــ أن الباحث ينطلق في هذا المنهج من المبادئ الأوّلية الواضحة للمخاطب ـــ والتي تعتبر رأس المال الفكري الموثوق للإنسان على وجه عام ـــ ليستنتج منها ما يتفرع عليها تفرعاً موضوعياً ويصل إلى نتيجة جديدة.
4 ـــ يتخذ صاحب هذا المنهج نوعاً في أسلوب الخطاب لغةً وقورةً وجادةً ومتينةً وواثقةً ومنصفةً ويبتعد عن لغة التهريج والاستخفاف والهزل والمغالطة.
5 ـــ أن هذا المنهج لا يجري على (أن الغاية الصائبة تبرر الوسيلة الخاطئة)، بل ترعى أن تكون الوسيلة صائبة كما هي الغاية.
الثاني: المنهج الجدلي، ومن صفات هذا المنهج:
1 ـــ أنه منهج غير موضوعي ولكن يتظاهر فيه بالموضوعية والتفكير الجاد ورعاية التسلسل المنطقي للأفكار.
2 ـــ أن الشخص يتعامل في هذا المنهج مع الفكر الآخر كخصم يسعى فيه إلى مصارعته والغلبة عليه بأيّة وسيلة متاحة حتى وإن لم تكن صائبة وسليمة.
3 ــ أن هذا المنهج يتوسع في استخدام وسائل الخصومة والغلبة ليشمل الوسائل التي لا يقرّ هو بها ولا يسلكها بنفسه في الوصول إلى الواقع، لكنه يستبيح استخدامها لضرب الخصم.
4 ـــ أن الباحث في هذا المنهج يستبيح لنفسه أن ينتفع بالوسائل التي يمكن تطبيقها على وجه تفنّد فكرته وادعاءه أيضاً، إلا أنه يتغافل عن ذلك ما دام أن المخاطب لم يلتفت إلى ذلك في مشهد الصراع، أو يكابر إذا نبّه عليه، ولذلك لا يُتوقع في هذا المنهج إنصاف الخصم بتاتاً ولا الاحتجاج بوسيلة تكون مقنعة له في دخيلة نفسه، بل قد يستخدم وسيلة يمكن أن ينتفع بها ضد فكرته أيضاً، فالمهم عند صاحبه أن يبدو هو الأقوى والغالب في مشهد الصراع.
5 ـــ إن صاحب هذا المنهج يتشبث بالأفكار السطحية التي لا تثبت عند التدقيق، ويراهن في الإقناع بها على أن المخاطبين والحضور في مشهد الصراع لا يبصرون الملاحظات الدقيقة ولا يتوقفون ملياً عند الأفكار المعروضة، بل تشغلهم الميول المسبقة أو مظاهر الصخب والغلبة.
الثالث: المنهج الخطابي والأدبي، ومن خصائص هذا المنهج:
1 ـــ أنه منهج غير فكري ينتفع بأدوات مؤثرة في مشاعر الناس وأحاسيسهم وعواطفهم ويهيّجها في اتجاه معيّن، ليوحي لهم بصواب فكرةٍ ما أو خطأ فكرة أخرى.
2 ـــ أن هذا المنهج يستخدم أدوات فكرية سطحية للغاية من قبيل الاستبعادات الأولية غير الناضجة، أو ادعاء ملاءمات ومناسبات غير ثابتة لا ترقى إلى درجة وثيقة أو اعتبار حالة مفردة دليلاً على فكرة عامة أو غير ذلك.
3 ـــ أنه يستعان في هذا المنهج كثيراً بالأدوات الأدبية التي تثير الإحساس وتهيّج العواطف مثل أنواع التخيلات والتشبيهات لأجل التأثير في نفوس الآخرين وإقناعهم بالفكرة.
ومن أبرز المؤثرات الخطابية:
1 ـــ أسلوب السخرية والاستهزاء بالأفكار حتى تبدو واهنة وضعيفة، وهذه الحالة تجاه الأفكار أشبه بتسقيط شخصيات الرجال المحترمين من خلال السخرية والاستهزاء والتعابير الواهنة والكاريكاتورية.
2 ـــ أسلوب السب والشتم والإهانة والاتهام والصور الملفقة لصاحب الفكرة حتى يسقط عن عين عامة الناس، فلا ينظر الناس إلى فكرته في نفسها، بل تبدو لهم الفكرة واهنة بتوهين صاحبها.
3 ـــ ربط الفكرة المعروضة بشخصية بعض من يعرضها ويظهر نفسه واجهة وممثّلاً لها، فإذا كانت تلك الشخصية غير وقورة وخفيفة استهين بالفكرة لأجل ذلك حتى كأن ذلك دليل على بطلان الفكرة في حد نفسها، حتى لو كانت الفكرة لذاتها عقيدة معروفة لها أدلتها وحججها، وذلك خطأ فاحش من المنظور الموضوعي، لأن صواب الأفكار والعقائد أو خطئها ليس مرهوناً بالرجال. وعكس ذلك الثقة بفكرة معينة رغم مؤشرات وهنها لمجرد تبني من يكبر في عين المجتمع لها، وذلك أيضاً أمر خاطئ، وفي مثل ذلك قال الإمام علي (عليه السلام): ((لا يعرف الحق بالرجال بل يعرف الرجال بالحق)).
فهذه هي أصول المناهج التي تتبع في مقام الإقناع والاقتناع.
ومن البديهي في ضوء ما تقدم أن على كلٍّ من الباحث عن الحقيقة والمبلّغ لها في أي موضوع أن ينهج المنهج الموضوعي الذي يعتمد على أدوات معقولة ومنطقية، ويبتعد عن الأساليب الجدلية البحتة أو الخطابية والأدبية، وذلك لعدة أسباب:
1 ـــ أن الأساليب الموضوعية هي أساليب موثوقة وأمينة، لأنها تعتمد على مؤشرات حقيقية لصيقة بالواقع، بينما الأساليب الجدلية والخطابية ليست طرقاً موثوقة وأمينة للوصول إلى الحقيقة، ومن الممكن تسخيرها ضد أي فكرة مهما كانت صائبة وواضحة.
ونحن نجد من خلال الاطلاع والممارسة استغلال الأساليب غير الموضوعية تجاه حقائق ثابتة حتى في العلوم الطبيعية ونتائجها التي هي موضع ثقة جمهور أهل العلم فيها، كما نجد استغلالها لضرب القيم الفطرية الإنسانية وتهوينها والاستخفاف بها.
2 ـــ أن الغرض المفترض للبحث ـــ في مقام الإقناع أو الاقتناع ـــ هو الهداية والاهتداء، وهذا يلائم اتخاذ الأدوات الموضوعية، لأن هذه الأدوات هي إيقاظ للوعي وإراءة للطريق وإرشاد إلى السبيل وإرساء للمنهج الملائم للتفكير في المخاطب، بينما سلوك الأدوات غير الموضوعية في مقام البحث نحو تسطيح للوعي وتضليل للرأي وتشتيت للفكر وتخبط في المنهج.
3 ــ أن سلوك الباحث للمنهج الموضوعي في مقام إرشاد الآخر احترام للآخر وتقدير له وأداء للأمانة، لأنه يقوم تجاهه مقام المشير الناصح، وإنما يتوقع المستشير ممن يشير عليه أن يرشده إلى علامات الطريق وملامح الواقع، وأما سلوكه للمنهج الجدلي والخطابي فهو استهانة بالآخر وخيانة للأمانة وغش في مقام المشورة واستدراج له بالمكر والخديعة، حيث يريد التأثير على المخاطب من حيث لا يحتسب ولا يشعر.
وقد يعتذر بعض من يستخدم الأدوات الجدلية والخطابية لإثبات مدعياتٍ حقةٍ وصائبةٍ بالحاجة إليها، لأن الرأي الصائب ليس مقنعاً للمخاطب بمؤشراته الموضوعية، أو لأن المخاطب لا يقتنع بالأسلوب الموضوعي، وهذا خطأ، لعدة أسباب:
1 ـــ أن المدعى الصائب لا يفقد شواهده الموضوعية التي يمكن تفهيمها لمن طلب الحقيقة.
2 ـــ إن استخدام الأدوات غير الموضوعية يزيّف وعي المخاطب، ويؤدي إلى زيف منهج الإقناع بشكل عام، بمعنى أن ساحة الإقناع تكون أشبه بساحة المصارعات أو الممارسات المضللة مثل الشعوذة والسحر ويؤدي إلى تنزل مستوى التفكير والإقناع العام وابتعاده من الرشد، ويغلب على الناس حينئذٍ الشبهات الواهنة والتشبثات الضعيفة بدل الحجج الموثوقة والأدلة المتينة.
وعلى الإجمال فإن الأدوات غير الموضوعية تميّع روح التفكير في الإنسان وتوجب تنزل مستوى وعي الإنسان وعقلانيته ومنطقه وتوهن أسس الاقتناع عنده.
3 ـــ إن من اقتنع بأسلوب غير موضوعي كان عرضة لأن يرفع اليد عن قناعته بمثله، ويضيّع بوصلة الحق وراية الصدق.
4 ـــ إن الغاية حتى لو كانت صائبة لن تبرر استخدام الأدوات الوضيعة والواهنة، ومن ضاق به الحق فإن الباطل عليه أضيق.
5 ـــ إن الأساليب غير الموضوعية تنتهك جملةً من القيم الفطرية العامة وتشتمل على جملة من الخطايا مثل الاعتداء غير المبرر على الغير، وهتك الحرمات والأعراض، والاتهام بغير حق، والقول بغير علم وتثبت، والكذب في القول بما يندرج فيه من وجوه التلبيس والتدليس والتظاهر والازدواجية، حيث كثيراً ما يستخدم الشخص أداة لا يعتقد بها ومعلومة لم يتأكد منها.
ومن الخطأ ما يفرض أحياناً من أنه يباح للإنسان في مقام المرح والضحك ما لا يباح في غيره فيتسامح فيه المرء بما لا يتسامح به في غير هذا المقام ويرتكب جملة من السلوكيات والأفعال غير اللائقة والذميمة.
إذاً على الباحث أن يستبعد الأساليب الزائفة والوضيعة سواء كانت من قبيل المؤثرات الجدلية التي تتظاهر بالفكر الموضوعي وتهدف إلى الخصومة والغلبة وتمنع الطرف الآخر مما يستبيحه لنفسه، أو كانت من قبيل المؤثرات الخطابية والأدبية التي تعتمد في الإقناع أصالةً على أمور غير موضوعية وتتلاعب بمشاعر المخاطبين وعواطفهم وأحاسيسهم وتعوّل على تهييجها.
لأجل ذلك نجد أن القرآن الكريم رغم أنه كان يفند عقائد وأعرافاً خرافية للغاية مثل ألوهية الأصنام التي صنعوها بأنفسهم وحرمة أشياء من الطيبات من خلال أوهام سخيفة جداً وممارسة وجوه من الظلم تقشعر منها القلوب مثل وأد البنات بحجة عدم الرزق ونحو ذلك، إلا إنه كان يحافظ على رقي الخطاب ويؤكد على الاستناد إلى ما يوجب تبصر الإنسان من البرهان والحجة والبيّنة ويفنّد هذه العقائد والأعراف بلغة المطالبة بالحجة، أو إقامة الحجة الموضوعية على خلافها، وتنهى عن الاعتماد على التقليد الأعمى والبناء على الظنون والتخرصات أو الميول والأهواء والأماني بالتفكير والتعقل والتدبر والتفهم والتفقه والوعي، كما نجد ذلك في مئات من الآيات القرآنية التي استخدمت هذه المفاهيم وأخواتها، ومن ذلك:
1 ـــ (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّـهِ إِلَـهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)([2]).
2 ـــ (وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)([3]).
3 ـــ (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى * وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)([4]).
4 ـــ (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَـذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)([5]).
5 ـــ (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّـهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ)([6]).
6 ـــ (مَا جَعَلَ اللَّـهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَـكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّـهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)([7]).
وعلى العكس من ذلك لوحظ دائماً أنه قد كان من أساليب المكذبين للرسالة السخرية من المؤمنين وممارساتهم، كما وصف ذلك في آيات عديدة من القرآن الكريم، ومنها:
1 ـــ (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّـهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)([8]).
2 ـــ ( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّـهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )([9]).
3 ـــ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)([10]).
4 ـــ (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ)([11]).
5 ـــ (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ)([12]).
لكن بالرغم من ذلك لم يقابل القرآن الكريم منهج السخرية والاستهزاء من عقائد المؤمنين وممارساتهم بمثله، بل قابلها بالنقد المنطقي والاحتجاج المعقول، كما أنه لم يوصِ المؤمنين أبداً بأن يتخذوا من أسلوب السخرية والاستهزاء من عقائد المشركين وسائر الخاطئين سبيلاً إلى التأثير عليهم أو على عامة الناس المتحيرين الذين ينشدون الحقيقة ولو على سبيل المقابلة بالمثل لممارستهم السخرية تجاه عقائد المسلمين وممارساتهم بالرغم من أن عقائدهم وممارساتهم لم تكن معقولة أبداً بل كانت أولى بالسخرية والاستهزاء، بل نهى القرآن الكريم عن سب آلهتهم ـــ وهي أصنام لا تعقل ـــ لا من جهة توقيرها، بل لأنها تؤدي إلى مزيد من الخطوات الذميمة التي لا تبتني على علم وبصيرة، قال سبحانه: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ فَيَسُبُّوا اللَّـهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)([13]).
ومن الأساليب النافعة في التوقي من التأثير غير المقصود في الأساليب الساخرة مقاطعتها وتجنب الاطلاع عليها ومواجهتها بالإعراض.
ولذلك نهى القرآن الكريم المؤمنين عن أن يجلسوا في مجالس الاستهزاء التي تريد أن توهن روح الإيمان فيهم بمجرد الضحك والسخرية على عقائدهم من قوم يعتقدون أنفسهم بأشياء خرافية حقاً من قبيل ألوهية الأصنام وحرمة الطيبات ووأد البنات، قال سبحانه: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّـهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)([14]).
ولذلك كله كان من المؤكد بحسب المنطق الفطري الذي جُهّز به الإنسان وتعاليم الدين أن على المرء أن يتحرى في اعتقاده ومسيرته الأدلة الموضوعية والموثوقة ويعوّل عليها، فمن ضل عن الحقيقة بطرق غير موضوعية ـــ مثل هوانها في شأنه بالسخرية بها والاستهزاء منها، أو بالاطلاع على شبهات غير جادة لم يصبر على متابعتها وكشف خللها بما ينبغي في شأن الموضوع الذي تتناوله في أهميته وخطورته ـــ فإنه لا يكون معذوراً فيما ضل عنه بل يكون آثماً، كما هو الحال فيما لو اعتدى على إنسان متهم من دون ثبوت التهمة بدليل موضوعي بل اقتناعاً بها على أساس السخرية منه والإشاعة عليه وإثارة الشبهة حوله، فلا عذر لمقصرٍ ولا حجة لمتسرعٍ ولا وثوق بساخرٍ ولا اعتماد على مستهزئ، ومن عوّل على السخرية والاستهزاء فهانت الحقيقة في نفسه بذلك فقد جعل على نفسه سبيلاً.
وإن الإنسان المؤمن لهو طالب للحقيقة بأدواتها وهو باحث عنها، وجاد في طلبها، يتحرى فيها الكلام المعقول والحجة الموثوقة، كما قال سبحانه: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَـئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّـهُ وَأُولَـئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)([15]).
كما أنه يستعمل الأدوات الموضوعية والموثوقة والملائمة في مقام إرشاد الآخرين، كما قال سبحانه: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)([16]).
22/ رجب/ 1443
الهوامش:
([1]) وقد تطرقت لهذا الموضوع في كتاب القواعد الفطرية العامة للمعرفة الإنسانية والدينية (من سلسلة منهج التثبت في الدين) القاعدة: 12، ص: 357 وما بعد.
([2]) المؤمنون: 117.
([3]) البقرة: 111.
([4]) النجم: 27ـــ 28.
([5]) الأحقاف: 4.
([6]) الأنعام: 148.
([7]) المائدة: 103ـــ 104.
([8]) البقرة: 212.
([9]) التوبة: 79.
([10]) الأنبياء: 41.
([11]) الصافات: 12ــ 14.
([12]) المائدة: 58.
([13]) الأنعام: 108.
([14]) النساء: 140.
([15]) الزمر: 17ـــ 18.
([16]) النحل: 125.