لعلّ المتابع للمقالات والمدونات يلحظ أنّ الأقلام التي تكتب عن حظها العاثر في الزواج، أو أحلامها المتوقدة التي أطفأ الزواجُ جذوتَها وقوالبها إلى أعمال داخل نطاق الأسرة بعيدا عن أضواء المكاتب وصالات المؤتمرات والجامعات، هي أقلام نسائية.
رغم أنّ الزواج لا يقلّ عبئا في مسؤولياته على الرجل، خاصة وأنه يترتب عليه في الشكل التقليدي للزواج والأسرة العملُ المستمر لضمان العيش الكريم للعائلة، كبرت أم صغرت، كما يُلزمه بارتباطاتٍ جديدة، وهو الذي اعتاد على الحرية سابقا في الخروج والدخول من وإلى المنزل، وغيرها الكثير من التفاصيل.
إنّ كثيرا من الشباب يحلمون بالسفر وإكمال الدراسة، وفتح مشاريع خاصة كنماذج عامة لأحلام الشباب، إلا أنها باتت مؤجلة من باب ترتيب الأولويات، وفي ذلك استمعت مباشرة لكثيرٍ من الشباب، لكننا لا نجدهم يكتبون في ذلك نادبين حظهم، وأتساءل ليس من باب المفاضلة والمقارنة، وإنما من باب التأمل في الجنس البشري وحاجاته، لماذا تغدو النساء أكثر تذمرا وشكوى من الرجال؟ الأمر الذي قد يصل إلى إنتاج خطاب أو صورة مجتمعية لصيقة بهن في هذا السياق، بل وقد يصبح القول: هذه هي طبيعة المرأة بكاءة شكاءه!
فهل هذه طبيعتها حقّا أم أنّها من صنعتها؟ وإن كانت من صنعتها فهل تتبعها لفرض ضغط الواقع أم كوسيلة لنيل المكاسب كونها "مفعول به" لا "فاعل" في دورها الاجتماعي والمهني كما يرى البعض؟ بمعنى أنها لا تملك قرارها قياسا إلى الرجل وفاعليته، في حين أن الرجل هو من يملك الدفّة ويحركها كيفما شاء، بل وقد يكون للرجل مساحات أكثر وأوسع للتنفيس قياسا بالمرأة، يفرضها عليهما الدور الوظيفي الذي يرسمه المجتمع لهما في باب العلاقات خاصة.
وهنا قمت بمناقشة مجموعة من الذكور والإناث، انطلاقا من الشكوى ذاتها كسلوك إنساني إلى دوافعه ومبرراته، وتاليا خلاصة آرائهم وتجاربهم:
الشكوى بين الجنسين
تلجأ المرأة إلى الشكوى والفضفضة بحكم الحاجة الفطرية، الأمر ذاته الذي يمتنع عنه الرجل، فالفضفضة لدى المرأة هدف لذاته تسعى عبر جسره إلى التخفيف من ثقل ما تحمله.
الشكوى سمة إنسانية يشترك فيها الرجال والنساء على حدّ سواء، ولكن كل وطريقته، فالرجل لا يشكو أمام الآخرين لأنه يعتبر الشكوى إخلالا بأهم عنصر من عناصر القوامة والرجولة ألا وهو المسؤولية، الأمر الذي يدفع المرأة أحيانا إلى عدم الشكوى كي لا يكون ذلك إثباتا لعجزها عن تحمل مسؤولية البيت والعمل في آن واحد، في حال أنها أرادت العمل المهني.
ويختلف الحكم على هذا السلوك، إذ ثمة فرق بين الشكوى من أمر ما لمقربين، ونشره على الملأ، فالأول يبدو مقبولا، أما الثاني فهو بحاجة إلى وقفة وإعادة نظر، هو أمر يخضع لعمل العقل والحكمة التي لدى الفرد ذكرا كان أم أنثى، ومن هنا يرى أحدهم أن الشكوى من التجارب الفاشلة ولو دون ذكر عيوب الآخر هي نقض للأمانة والعهد، فالذي يحترم نفسه وشريكه من المحال أن ينشر فشل تجربته معه أمام الآخرين، في حين يرى آخرون أنّ الشكوى عبر المنصات العامة ما هي إلا مرحلة متقدمة تصل إليها المرأة بعدما لم تجد زوجا منصتا ومتفهما لطبيعتها الفسيولوجية في الفضفضة والتعبير.
الشكوى والفطرة البشرية
تلجأ المرأة للشكوى والفضفضة بحكم الحاجة الفطرية، الأمر ذاته الذي يمتنع عنه الرجل، فالفضفضة لدى المرأة هدف لذاته تسعى عبر جسره إلى التخفيف من ثقل ما تحمله، أما الرجل فلا يحتاج إليه إلا بقدر ما قد يترتب عليه من إنجاز أو عمل ما، هو الأمر ذاته الذي عبّرت عنه إحداهن بقولها إنّ ما يحجب الرجال عن الشكوى هو واقعيتهم وتكيفهم السريع مع الظروف التي يواجهونها وإن خالفت أحد أهدافهم، أما نحن "النساء" فلا نعرف التأقلم بسرعة ونبقى غارقين في الوقوفِ على الأطلال.
المقود بقبضة من؟
الرجل في "مجتمعنا الشرقي" يمكنه أن يغير مسار العائلة بأكمله ليتوافق مع مساره. كأن يسافر والعائلة لبلد آخر كي يكمل تعليمه أو يحصل على وظيفة جديدة، في حين أن الأمر لا يتحقق مع المرأة إلا في أضيق الحالات، إذ مهما تكالبت المسؤوليات على الرجل فإنه يبقى حرّا إذا ما أراد الخروج أو السفر أو الغياب عن البيت لساعات كثيرة، الأمر الذي لا يتحقق مع المرأة بحكم مسؤوليتها والتزامها بالمنزل ورعاية الأبناء.
وهذا ينقلنا إلى مساحة الواقع وما يفرضه العرف المجتمعي على كل من الرجل والمرأة، فالمجتمع يرى المرأة مسؤولة عن رعاية نفسها وزوجها وأبنائها، في الوقت الذي لا يفرض على الرجل غير الإنفاق المادي، والذي قليلا ما يحاسب على تقصيره فيه كما لو قصّرت المرأة في أعبائها المنوطة بها، إذ يبقى الزوج والأبناء مركزها ودائرة اهتمامها وأولوية الإنجاز الذاتي لها، إلا في حالات قليلة هنا وهناك قد تتمرد فيها المرأة على هذا الواقع.
حتى إذا ما تم تبادل الأدوار بين كل من الزوج والزوجة فلن يكون الأمر متقبّلا، نظريا قد يجيبنا الرجل بالقبول إذا ما سألناه هل تسمح لزوجتك بالخروج يوميّا لدراستها المسائية، على أن تُبقي الأبناء برفقتك في المنزل إلى حين عودتها، قائلا "نعم، نؤمّن لها كل الدعم"، ولكن حقيقة ما الذي يمكن أن يحدث إن فعلت؟!
تذكُر إحداهن أنها كانت تطمح وبشدة لإكمال دراستها والعمل، ومن شدة رغبتها في ذلك جعلته شرطا في عقد زواجها، لكنها عندما تزوجت قدّمت طموحَ زوجها على طموحها كونه طبيبا، ولم تتوان عن دعمه في كل خطوات طريقه وامتحاناته، متحملة مسؤولية البيت والأطفال كاملة، واستغرقت في ذلك لدرجة أنها لم تجد متسعا من الوقت لقراءة الكتب التي تهمها، ومع ذلك كما تقول ما حصدَتْ إلا اللوم من زوجها بأنها لم تطور نفسها، قائلة:" هذا ما تربينا عليه في مجتمعنا، وتبقى أضعاف الإنجازات التي أنجزناها مع البيت والأبناء غير معترف بها"، فالرجل لا يشكو لأنه يكون قد حمل زوجته ضعف حمله، وخفف عن نفسه.
ليست النساء دوما الحلقة الأضعف!
يقول أحدهم إن الزوجة تفرض على الزوج من أول لحظة تربطهما، وهي لحظة الخِطبة، مصاريفَ عديدة، من الهدايا والفُسحة، إلى تكاليف العرس والمهر بشقيه المقدم والمؤخر، يضاف إليهم تكاليف "شهر العسل" وتجهيز الشقة، لتأتي بعد ذلك متطلبات الأبناء من الملابس والمدارس والأنشطة، الأمر الذي تتحفظ عليه النساء من منطلق أن كثيرا من الزوجات يعملن ويساعدن أزواجهن، بل قد يصل الأمر بأن تبيع إحداهن "ذهبها" راضية، ليحلّ زوجها كُربته المادية، دون أن تتلقى منه "كلمة حلوة" ترجوها.
الشكوى في زمن وسائل التواصل
عبّر بعضهم أن الإعلام يلعب دورا في تشكيل هذه البكائيات لدى المرأة، وذلك بما يطرحه من صورة المرأة الطموحة التي تجد الزواج همّا فتنأى عنه لتحقيق ذاتها وطموحها، الأمر الذي وسّعت دائرته أكثر وسائل التواصل الاجتماعي حتى غدا الأمر "موضة" مبالغا بها، ليس إلا.
تقول إحداهن إن الغالبية مما يُطرح تحت بند الشكوى والتذمر ما هو إلا موضة، بغض النظر عن تلك الاستثناءات من النساء اللاتي فعلا يشتكين لحاجتهن للتوجيه والإرشاد، ولكن الحاصل هذه الأيام أن معظم "الجروبات" والصفحات على "الفيس بوك" أصبحت "حبل غسيل" لكل امرأة تجد فيها متنفسا من أجل التفريغ فقط، إن أغلب المشاكل التي تشكو منها النساء عبر وسائل التواصل الاجتماعي ماهي إلا مشاكل "تافهة" تريد بها دفع العين، أو أنها تريد هدم بيتها بنفسها، وخاصة تلك المرأة التي يقض مضجعها راحة مسكنها فتشكو لزميلاتها في "الجروب" اهتمام زوجها الزائد وحرصه عليها.
الجواب من لدنك
علّنا نرى من هذه الآراء ذاك الصراع الخفي بين دفّة المسؤولية والحقوق والواجبات الذي لا ينتهي مادام هناك تواصل وتزاوج وتناسل، والذي يطفو على السطح مع كل جزئية قد تثار في عالم التقابل، وتشعر المرأة في كثير من محطات هذا الصراع بأنها الحلقة الأضعف بحكم ما تفرزه سطوة المجتمع، إلا أنّه هل يمكننا القول هنا بأنّ المرأة ذاتها هي من تملك مسؤولية تشكيل الصورة الخاصة بها والناتجة عن قرارها بتحمل تلك المسؤولية التي دخلت بها مرحلة تكوين الأسرة بكل متعلقاتها؟
أترك لكم الجواب فلكل تجربته، وهنا لا تغادرني صورة منزلنا وحالة الطوارئ التي كانت تسود فيه أيام ما كنت أنا وأخواتي نقدم الثانوية العامة، في الوقت الذي لم نكن نشعر أن ثمة طالب ثانوية عامة في البيت عندما التحق أخي بها.
*عبير الكالوتي