ثمّ اقتنى الناس الهواتف في بيوتهم ليصير مَن يأتي من دون إنذار مسبق أو موعد يعتبر «قليل الذوق»، فصار الناس يتصلون هاتفياً قبل تبادل الزيارات، ومع انتشار الهواتف المحمولة والذكية وتطبيقات التحدث بواسطة الرسائل النصية، صرنا نرى الناس يستأذنون عبر الواتساب، قبل الاتصال الهاتفي، ومَن لا يفعل يُعتبر أو يعتبر نفسه متطفلاً ومزعجاً.
وهذا يعني أنّه بعد منع الزيارة من دون اتصال هاتفي، بتنا على أبواب منع الاتصال الهاتفي من دون رسالة نصية، ونتساءل متى ستمنع الرسالة النصية بدون شيء ما يسبقها... نحن نعيش في عصر بلغت فيه وسائل الاتصالات مبلغاً لم تعرف مثله من قبل، إلّا أنّ المفارقة تكمن في أنّنا بتنا الآن منقطعين عن بعضنا أكثر من أي وقت مضى.
والحقيقة أنّنا نفضّل التحدث مع بعضنا من دون أن يرى مَن نتحدث معه وجهنا ومن دون أن يسمع صوتنا، أما السبب فقد تختزله صديقة إذ قالت لي يوماً: «إذا أردت أن تكذبي فاكذبي على الهاتف لأنّ محدثك لن يستطيع أن يرى رمشه عينك وأنت تكذبين».
أما اليوم فستقول: «اكذبي على الواتساب»، ويمكن أن نقيس كافة المشاعر الأخرى انطلاقاً من هذا القول وهكذا، فإذا كانت الأحاديث وجهاً لوجه في طور الانقراض، هذا يعني أنّها متصلة بخوفنا من أن يحس الآخر بنقاط ضعفنا.
لا أحد يحب فعلاً أن يراه الآخرون حزيناً أو مرتكباً أو متواتراً، لذا فإنّ الرسائل النصية تشكل مكاناً ممتازاً للاختباء حين تنتابنا هذه المشاعر فنلجأ إلى المساحة الرقمية.
هناك نستطيع أن نكتب أفكارنا ونراجعها قبل أن نعبّر عنها، نستطيع أن نخفي وجوهنا وحتى أسماءنا كما نستطيع أن «نتواصل» مع الآخرين مع إبقائهم بعيدين عنا، فاللقاءات وجهاً لوجه مربكة لأنّها تدور هنا والآن وليس بإمكاننا دائماً أن نسيطر على ما يمكن أن نقوله أو نعبر عنه بواسطة حركات الجسم وتعابير الوجه.
كان سقراط، أوّل الفلاسفة، يتبع الطريقة التوليدية لاستنباط الحقيقة، أي طريقة الأسئلة والأجوبة في لقاءات وجهاً لوجه مع طلابه. وكان يدين آنذاك الكتابة بحد ذاتها معتبراً أنّ الكلمات المسمّرة على ورقة تشجع التناسي ولا يمكنها أن تكون جزءاً من النقاش والحجج المتبادلة التي تقود إلى اكتشاف الحقيقة، فما عساه اليوم أن يقول لو كان بيننا مجدداً ليرى وسائلنا الجديدة في اللا«اتصال»؟
*د. هدى محيو