النقطة الأولى: لكل إنسان أجلان: أجل محتوم، وأجل موقوف.
والأجل المحتوم: فهو الذي في علم الله وأم الكتاب، وهو غير قابل للزيادة والنقصان، وإليه الإشارة في قوله تعالى: {وإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.} والمراد هنا الأجل المحتوم.
وأما الأجل الموقوف: ويسمى بالمعلق أيضاً، وهو المكتوب في لوح المحو والإثبات، ومن المعلوم أنه قابل للتغيير والتبديل، بالتقديم والتغيير.
والدليل على وجود أجلين: الآيات والأحاديث:
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام 2]
روى الكليني بسند موثق عن حمران، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل: {قضى أجلا و أجل مسمى عنده} قال: هما أجلان: أجل محتوم، وأجل موقوف. (الكافي للكليني: 1 / 147).
وروى العياشي عن حسين عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: {قضى أجلا وأجل مسمى عنده } قال: الأجل الأول هو ما نبذه إلى الملائكة والرسل والأنبياء، والأجل المسمى عنده هو الذي ستره الله عن الخلايق. (تفسير العياشي: 1 / 355).
وغيرها من الروايات الناصة على تعدد الأجلين.
وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر 11]
فالعمر قابل للزيادة والنقصان بنص الآية الكريمة، ويدل عليه الروايات:
روى الكليني بسند صحيح عن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما نعلم شيئا يزيد في العمر إلا صلة الرحم، حتى أن الرجل يكون أجله ثلاث سنين فيكون وصولا للرحم، فيزيد الله في عمره ثلاثين سنة فيجعلها ثلاثا وثلاثين سنة، ويكون أجله ثلاثا وثلاثين سنة، فيكون قاطعا للرحم فينقصه الله ثلاثين سنة، ويجعل أجله إلى ثلاث سنين. (الكافي للكليني: 2 / 153).
قال المجلسي معلقاً على فقرة: "ما نعلم شيئاً يزيد في العمر إلا صلة الرحم": ولعله محمول على المبالغة، أو هي أكثر تأثيرا من غيرها، وزيادة العمر بسببها أكثر من غيرها، أو هي مستقلة في التأثير وغيرها مشروط بشرائط، أو يؤثر منضما إلى غيره، لأنه قد وردت الأخبار في أشياء غيرها من الصدقة والبر وحسن الجوار وغيرها أنها تصير سبباً لزيادة العمر. (مرآة العقول: 8 / 373).
ومن الأشياء التي تصير سبباً لزيادة العمر: زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) حيث روى ابن قولويه بسند صحيح عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين (عليه السلام)، فان إتيانه يزيد في الرزق ويمد في العمر ويدفع مدافع السوء، واتيانه مفترض على كل مؤمن يقر للحسين بالإمامة من الله. (كامل الزيارات لابن قولويه، ص284).
وروى البخاري بسنده عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله (ص) يقول: من سره ان يبسط له رزقه أو ينسأ له في اثره فليصل رحمه. (صحيح البخاري: 3 / 8).
ويُنسَأ: أي: يؤخر، في أثره: أي: في أجله. (لاحظ فتح الباري في شرح صحيح البخاري: 10 / 348، شرح صحيح مسلم للنووي: 16 / 114).
قال الحافظ ابن حجر: وعند أحمد بسند رجاله ثقات عن عائشة مرفوعا: صلة الرحم وحسن الجوار وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار. (فتح الباري: 10 / 348).
قال ابن تيمية: والأجل أجلان "" أجل مطلق ""يعلمه الله "" وأجل مقيد ""وبهذا يتبين معنى قوله (ص) من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه. فإن الله أمر الملك أن يكتب له أجلا وقال : "" إن وصل رحمه زدته كذا وكذا "" والملك لا يعلم أيزداد أم لا؛ لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر فإذا جاء ذلك لا يتقدم ولا يتأخر. (مجموع الفتاوى لابن تيمية: 8 / 517).
الخلاصة: هذه الروايات ناصة على تعدد الأجل.
النقطة الثانية: الحوادث التي تمرّ على الإنسان مكتوبة مقدّرة، يعلمها الله تعالى، ولكن لا تدلّ على الجبر والخروج عن المسؤولية، فالله عالم بأنّ فلاناً سيقتل فلاناً ظلماً وعدواناً، علم الله تعالى ليس هو سبب وعلة القتل، فإنّ علة وسبب القتل هو إرادة القاتل، وليس الله، فالقتل معلول لإرادة واختيار القاتل، وليس معلولاً لعلم الله تعالى.
ومن هنا ما دام أنّ القاتل هو الذي أقدم على القتل باختياره وإرادته، فهو محاسَبٌ ومسؤول عن جريمته.
وسأذكر مثالاً يقرّبُ الفكرة، فلو علم الأستاذ أنّ زيداً سيرسب هذه السنة، وأنّ سعيداً سينجح، ومع ذلك لم يقصّر معهما، قام بوظيفته تجاههما من شرح الدرس والإخبار بموعد الامتحان، ولكن مع ذلك لم يهتم زيد بالدراسة، فرسب، وسعيدٌ انشغل بالدراسة والحفظ، فنجح.
السؤال: هل علم الأستاذ برسوب زيد سبب لرسوبه؟! أم أنّه بإرادته واختياره لم يهتم بالدراسة، فرسب؟
هل علم الأستاذ بنجاح سعيد سبب لنجاحه؟! أم أنه بإرادته واختياره درس وتعب، فنجح؟!
وعليه: فعلم الله كاشف عن المعلوم، وليس علةً للمعلوم.