توقفت السيارة وسرعان ما فتح بابها وما ان رأته حتى ركضت نحوه وهي تجاذب اطراف عباءتها السوداء التي لم تكن اكثر سوادا من ليالي فراقها له لتعانقه عناقا مصحوبا بزفرات الدموع.
هكذا استقبلت السيدة (هـ. س) ولدها حيدر، هذا المشهد هو الذي مزّق أشهر الفراق الثمانية التي عانت منها (هـ) بعد طلاقها من زوجها بسبب مشاكل مع والدته.
تقول (هـ. س) لـ "البلاغ": لقد بدأت المشاكل مع والدة زوجي بعد فترة قصيرة من زواجنا، وقد حاولت اكثر من مرة التنازل وتسوية الامور لكن سرعان ما كانت المشاكل تعود الى الواجهة.
وتضيف "لقد اشترط زوجي واهله ان اتنازل عن مؤخر مهري وان يأخذوا ولدي حيدر مقابل ان يوافقوا على الطلاق، فوافقت خصوصا انني لم اكن قادرة على تحمل نفقات دراسته".
لكنها لم تكن السيدة الوحيدة التي يطلقها زوجها بسبب مشاكل مع والدته، بل هناك عشرات الالاف مثلها في العراق.
ارتفاع حالات الطلاق
في البلاد التي خرجت قريبا من حرب استنزاف استمرت أكثر من 3 اعوام، ترتفع معدلات الطلاق بشكل لافت، ففي الـ 25 من اذار الماضي نشر مجلس القضاء الاعلى العراقي احصائية لحالات الزواج والطلاق التي اجرتها 16 محكمة استئناف خلال شهر شباط في عموم المحافظات باستثناء اربيل والسليمانية ودهوك، سجلت الاحصائية 6800 حالة طلاق خلال شهر شباط فقط.
وبعملية رياضية بسيطة يظهر لنا ان معدل حالات الطلاق في شهر شباط الماضي هو 242 حالة طلاق في اليوم الواحد، ويزداد ذلك إذا اضفنا اعداد حالات الطلاق في مدن السليمانية واربيل ودهوك.
أسباب
وترى الدكتورة زهور كاظم، وهي باحثة في مجال التربية الاجتماعية في حديث لـ "البلاغ" ان "الطلاق هو مشكلة سببها مشكلة سابقة هي مشكلة الاختيار الخاطئ في الزواج، وهو اهم اسباب الطلاق عندما يكون اختيار الزوجة او الزوج مبني على علاقة سابقة ليست شرعية او علاقة عبر الهاتف او مواقع التواصل الاجتماعي لا هدف لها سوى اشباع الحاجة الغريزية للجنس، وليس هدفها بناء الاسرة وانجاب ابناء وتربيتهم تربية صحيحة، وفي هذه الحالة يكون الطلاق نتيجة ومصير محتوم لهذه العلاقة الا ما ندر".
وتضيف "هناك اسباب اخرى للطلاق مثل التفاوت في المستوى العلمي فاذا كان الفارق العلمي بين الزوجين كبير فأن الزواج سيكون مهدد بالانهيار، خصوصا إذا كان المستوى العلمي للزوجة او الشهادة التي تحملها أكبر من مستوى الزوج".
وتشير كاظم الى ان تباين المستوى الفكري بين الزوجين احيانا يكون هو سبب الطلاق، فقد يستوي الاثنان في المستوى العلمي ولكن فكر الزوج يختلف عن فكر الزوجة وهذا ناشئ عن الاختلاف في البيئة التي ولدا وتربيا فيها".
التواصل الاجتماعي تسبب بارتفاع معدل حالات الطلاق
من جهته، يرى الدكتور خميس غربي حسين، وهو استاذ في جامعة تكريت لـ "البلاغ" ان ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار افكار العولمة والعادات والتقاليد الدخيلة على المجتمع العراقي ادت الى ازدياد معدل حالات الطلاق بشكل كبير.
ويؤكد حسين "ان ظهور شبكات التواصل الاجتماعي وثقافة العولمة والافكار الدخيلة التي بدأت تدخل المجتمع العراقي مع وجود القنوات الاخرى هي أكثر العوامل التي ادت ارتفاع معدلات الطلاق في المجتمع العراقي، فضلا عن ذلك ضعف الوازع الديني وعدم الاكتراث للآيات القرآنية الكريمة والاحاديث الشريفة الدالة على استحباب ووجوب تكوين الاسرة والاهتمام والحث على الزواج".
الطلاق ليس مشكلة اجتماعية فقط بل اقتصادية ودينية ايضاً
لكن ما يجعل الطلاق اكثر خطورة وضررا على المجتمعات هو ضياع مستقبل الاطفال وربما يصل الامر الى حرمانهم من التعليم وتشردهم في الشوارع.
ويعتبر التدريسي في جامعة تكريت ان الطلاق لا يمثل مشكلة اجتماعية فحسب بل هو مشكلة اقتصادية ودينية ايضا اذ ان "الطلاق يؤدي التفرقة بين شخصين، فضلا انه يخلق اثار سلبية كبيرة على ابناء المطلقين، فقد يتحولوا الى افراد مشردين في الشوارع، وقد يصبحوا مجرمين مستقبلا او قد يدمنون على المخدرات وغيرها".
في السياق ذاته، يتحدث الخبير القانوني علي الصراف لـ "البلاغ" قائلا: "هناك اسباب اجتماعية كالخلافات الزوجية وعدم التفاهم بين الطرفين او قدي يرجع الى وجود فوارق بين الزوجين كفارق السن او التعليم او المستوى الاقتصادي والتي تكون سببا من اسباب التفريق بين الزوجين".
ويشير الصراف الى ان قانون الاحوال الشخصية العراقي رقم 188 لعام 1959 المعدل، اعطى والزوجة حق التفريق في حالات عددية منها عديدة منها مرض الزوج وعدم قدرته على الاستمرار بالحياة الزوجية، او هجر الزوج للزوجة او فقدانه، او ترك الزوجة بدون نفقة لمدة معينة.
لكن السبب الابرز وراء حالات الطلاق هو "التفكك الاسري وهو المشاكل بين الزوجة وام الزوج، ويرجع سببه الى سلوك فطري في ام الزوج وشعورها بالغيرة من زوجة ابنها ، ما يتسبب بإثارة مشاكل كبيرة بين ام الزوج والزوجة بسبب امور بسيطة لا تستحق ان تصل الى الطلاق"، وفقا لمختصين بعلم النفس الاجتماعي.
ممثل السيد السيستاني: تفاقم حالات الطلاق يتحمله المجتمع والاسرة نفسها
من جهتها، حملت المرجعية الدينية العليا مسؤولية تفاقم حالات الطلاق الى الاسرة والمجتمع، اذ دعا ممثلها في كربلاء السيد احمد الصافي خلال خطبة الجمعة في 16 من اذار الجاري الى ان يتجمل المجتمع بمختلف شرائحه المسؤولية ازاء هذه المشكلة.
وأشار الى ان "الشارع المقدس رغب كثيرا الى تكوين الاسرة، اذ هي النواة الاولى والحاجة الاساسية للنزعة الفطرية للإنسان، حتى دخل في خصوصيات التربية وتسمية الابناء.
وتابع سماحته خلال خطبته التي القاها من الصحن الحسيني الشريف ان البناء الاسري بدأ في بعض مجالاته يتصدع، وهذا وضع ينعكس سلبا على كم هائل من المشاكل ونحن ندفع الثمن، والمجتمع يتحمل وزر بعض الافكار الساذجة والغريبة وبالنتيجة الكل عليه ان يتحمل مسؤوليته، حيث ان الاسرة التي يخرج منها بناة المجتمع وقادته واذا بها بدأت تتصدع".
الاختيار السيء والطمع .. سرعان ما يفشل الزواج!!
ويعزو ممثل المرجعية ذلك الى عدة اسباب منها "الاختيار السيء والاختيار الناشئ من الطمع عند الزوجة او عند الزوجين. مشيرا الى انه "سرعان ما ينهار هذا الاختيار بعد ان يأخذ الزوجان حاجتهما من الطمع"، معللا ذلك ان متاع الدنيا هو الدافع للزواج حيث لا يوجد اساس صحيح لبناء هذه العلاقة.
وأشار السيد الصافي، الى ان عوامل عديدة ساهمت في زعزعة بناء الاسرة، منها ان الزوج لم يبني الاختيار على موازين صحيحة، وانما موازين من بدايتها هشة، فيما ان الزوجة يكون من ضمن اختيارها للزوج ان المال حاضر دائما، وماذا ينتج من ذلك، ان المودة والمحبة غير موجودة وسرعان ما يفشل مشروع الزواج ويذهب كل منهما الى حيث يريد.
وبين ان "عدم تفرغ رب الاسرة للبيت وانشغاله بملهيات كثيرة تاركا البيت خلف ظهره غير باديا اهتمامه بالأسرة، كما الزوجة ايضا حيث لا يشعران بالانتماء الى الاسرة، نتيجتها ان الاولاد سيكونون ضيوفا اقرب مما يكونوا ابناء".
واكد ممثل المرجعية الدينية "جميع الاعمال الاخرى مهما تكن ليست اهم من الاسرة، وعلى الزوجين مسامحة بعضهما على ارتكابهما المعاصي" معتبرا، ان الطلاق في بعض الحالات، حل لمشكلة لا تحل الا به، جازما ان اكثر المشاكل الموجودة هي مشاكل شكلية فقط، والحفاظ على الاسرة اولى من ان يفترق الزوجان.
المرجعية العليا: فليكن هناك جو عام يساعد لبناء الاسرة
ودعا السيد الصافي "وجوه القوم" والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية من منظمات المجتمع المدني بالدفع الى بناء الاسرة، حيث قال "فليكن هناك جو عام على بناء الاسرة واصلاح ذات البين، والحاجة الماسة الى بناء الاسر".
وشدد ممثل المرجعية الدينية العليا، على التثقيف في بناء الاسرة وكيفية توفير الجو الملائم لها، موضحا، انها "مسؤولية المجتمع بأكمله، والمسألة اكبر من ان تكون شخصية، اذ ان تفكك الاسرة يدفع ضريبتها الابناء، وعلى الجميع الاشتراك في لملمة الاسرة ومنع تهدمها.
غياب مبدأ الحقوق والواجبات
في السياق ذاته، اعتبر ممثل المرجعية الدينية العليا الشيخ عبد المهدي الكربلائي ان غياب مبدأ اعتماد الحقوق والواجبات داخل الأسر، وانعدام مراعاتها يؤدي إلى ازدياد حالات الطلاق وتفكك الأسر، داعيا الى الأسر إلى الحب والاحترام المتبادل فيما بينهم، مشدداً على أهمية أن يحترم الزوج حقوق زوجته وأن يحسن إليها، وأن تحترم الزوجة زوجها مهما علت مكانتها الاجتماعية.
وعزا الشيخ الكربلائي انتشار النزاعات والخلافات والاقتتال إلى غياب مبدأ التسامح داخل الأسرة وهو ما ينعكس على المجتمع.
وعن المعالجات والحلول اللازمة للحد من تنامي وازدياد معدلات الطلاق، يؤكد الدكتور خميس غربي حسين التدريسي في جامعة تكريت ان الحل يكمن في الرجوع الى منهج القرآن الكريم والروايات الواردة عن ائمة اهل البيت عليهم السلام في بناء علاقة طيبة بين الزوج والزوجة، والاهتمام بالتربية الدينية على القيم السامية للأبناء.
ويشير حسين الى اهمية مرحلة ما قبل الزواج لا سيما مرحلة اختيار الزوج او الزوجة مؤكد ضرورة "وجود دراسة لشخصية الزوج والزوجة والتأني باتخاذ القرار، والاخذ بنظر الاعتبار الامكانيات الثقافية والمادية والاجتماعية للطرفين".
وما لم تتبنى الاسر والافراد تصحيح ممارساتهم واعتماد مبدأ الحقوق والواجبات وحسن الاختيار لضمان استمرار ودوام العلاقة الزوجية، فأن شبح الطلاق سيبقى يهدد المجتمع العراقي بالانهيار.
مقتطف من مجلة «البلاغ» الصادرة عن شعبة البحوث والدراسات - العدد الأول