التصالح مع النفس أو التصالح مع الذات من المفاهيم التي يكثر استخدامها بين المهتمين بالتنمية البشرية وتطوير الذات.
ويبدو أن مصطلح التصالح مع النفس يحمل في طياته دلالة إشكالية في حد نفسه، إذا كيف يصبح التصالح مع النفس طريق إلى تطويرها وتنميتها؟ فالظاهر من دلالة المصطلح هو قبول ما عليه النفس من إيجابيات وسلبيات، وبالتالي التعايش معها دون العمل على تغييرها، وهذا المعنى يتناقض تماماً مع أهداف التنمية البشرية وتطوير الذات، ويبدو أن هذه الدلالة الإشكالية هي التي جعلت بعض مدربي التنمية البشرية يتورط في تقديم توصيات قد تتعارض مع توصيات الإسلام حول النفس، مثل إشعار النفس بالخطيئة وعدم التساهل مع الذنوب ومحاسبة النفس ولومها.
ومن الواضح أن هذا فهم مشوه للمقصود من مصطلح التصالح مع الذات، ففي كتاب «قوة التصالح مع الذات» للدكتورة وفاء محمد مصطفى، خبيرة التنمية البشرية، اعتبرت التصالح والتسامح وجهان لعملة واحدة، فلا يمكن أن يتحقق التسامح الاجتماعي وقبول الآخر من غير أن يتحقق التصالح مع النفس أولاً، الأمر الذي يؤكد أن المقصود من التصالح هو تجاوز سلبيات النفس من خلال التقييم الموضوعي والواقعي لحقيقتها، فمن يرى في نفسه عوامل النقص سوف يرى الآخرين بعين العفو والغفران، ومن يرى فيها عوامل الكمال سوف يكون أكثر عطاءً وحباً ورحمة، فالتصالح يعني التوازن بين الإفراط والتفريط، فلا يستحقر الإنسان نفسه فيقضي على كل عوامل الخير فيه، ولا يرى نفسه بعين العظمة والغرور فيستحقر هو الآخرين.
وعليه فإن لإطار الذي يجب أن يصنف فيه مفهوم التصالح على أنه مفهوم إيجابي هو عندما يكون عاملاً مساعداً على تخليص النفس من مشاعرها السلبية وأمراضها النفسية، وبهذا الطريقة يحفز التصالح النفس نحو النجاح والإبداع بدل أن تظل حبيسة تصوراتها الخاطئة نحو ذاتها ونحو الآخرين، فحتى يعيش الإنسان في جو خالٍ من الأحقاد والعداوات لابد أن ينطلق من تقييم واقعي لذاته، ويبدو أن التحليل النفسي لأكثر المشاكل النفسية والاجتماعية يحمل المسؤولية للنظرة غير المتوازنة للذات، فمثلاً الناس الذين يعيشون حالة من العزلة والانطواء والاكتئاب يحملون في الواقع نظرة خاطئة لذواتهم، فالإنسان الذي لا يجد لنفسه قيمة ولا يثق في قدراته سيفضل الهروب والانطواء على المواجهة والتحدي، وقد تتعاظم هذه الحالة حتى تؤدي إلى أمراض خطيرة نفسياً واجتماعياً، وقد اصطلح على هذه الحالة باضطراب الشخصية الاجتنابية (Avoidant personality disorder). وسميت بذلك لأن من يعاني منها يسعى جاهداً لتجنب الاحتكاك بالآخرين، ولذا قد يترك العمل أو الدراسة وكل الأنشطة الاجتماعية خوفاً من تقييم الآخرين، والتصالح مع النفس لمثل هذه الحالات يقوم بتشجيعهم على تقييم ذواتهم دون الالتفات لتقييمات الآخرين، فأحياناً يعمل المجتمع والأسرة والتربية على فرض نمط محدد للشخصية، وعندما يجد الإنسان نفسه لا تنسجم مع الشخصية المفروضة عليه، يحصر نفسه بين خيارين، أما أن يكفر بذاته فيصاب بالإحباط والعجز الاستسلام، وإما أن يكفر بالمجتمع فيصاب بحالة من الغرور والتكبر، ومن هنا يجب على الإنسان أن يتصالح مع ذاته ويكتشف نفسه كما هي ليتمكن من بناء حياته التي تناسبه.
وعليه فإن المقصود من التصالح مع النفس هو أن يعيش الإنسان بشخصيته الحقيقية لا بشخصية مزيفة قائمة على النفاق، فيتعامل مع الآخرين بواقعية تنطلق من شعوره العميق بذاته، ولا يعني ذلك الاسترسال مع النفس بحيث يسلم لها زمام المبادرة وإنما يعني فهمها حتى يسهل ترويضها وقيادتها، فالمعانة التي تواجه الإنسان في الحياة هي انعكاس للمعانة التي يعيشها في الداخل، فمع أن المتصالح يرى كل ما في حياة من كراهية وبغض ونزاع ومشاكل إلا أنه يتسامى عليها، ولا يكون ذلك من موقع الإنكار والتجاهل وإنما من موقع الحِكمة والقوة والاقتدار، فمثلاً عندما يعترف الإنسان بجهلة في قضية ما ويتصالح مع هذه الحقيقة لا يمكن أن يجادل الآخرين ويتخاصم معهم في أمر هو يعترف بجهله فيه، وكذلك لا يمكن للمتصالح مع جهله أن يكره أو يعادي من لا يعرف عنه شيء، وهكذا من يتصالح مع نفسه لا يرى نفسه افضل من الآخرين ولا عرقه ارقي من أعراق الآخرين ولا يمكن أن يعيش في خصومة ونزاع دائم بسبب نظرته المشوهة لذاته؛ لأنه يعرف قدره ومقداره ويعرف إمكاناته وقدراته كما يعرف نقصه وسلبياته، وعليه من يتعالم مع نفسه بواقعية سوف يتعامل مع الواقع بواقعية اكبر.
ويبدو أن العقبة الكبرى أمام تصالح الإنسان مع ذاته هو المناخ الاجتماعي والثقافي، الأمر الذي يجعل الفرد في حالة من الخداع الدائم لذاته ليكون كما يريده الآخرين لا كما يريد هو أن يكون، وقد ذم الله التقليد والاتباع الأعمى للمجتمعات، وقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)، وفي الحديث الشريف: (لا تَكونوا إمَّعةً، تقولونَ: إن أحسنَ النَّاسُ أحسنَّا، وإن ظلموا ظلَمنا، ولَكن وطِّنوا أنفسَكم، إن أحسنَ النَّاسُ أن تُحسِنوا، وإن أساءوا فلا تظلِموا)، وقد نسب لأمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم).
وفي المحصلة لا يجوز فهم التصالح مع الذات على أنه توطين النفس على الخطأ والرذيلة وإنما يعني اكتشاف الذات بعمق وفهمها على حقيقتها من غير خداع وتزوير، وإذا حقق الإنسان السلام الداخلي بين متناقضات النفس تمكن من توظيف مواطن قوته كما يتمكن من تدارك مواطن ضعفه.