وبحسب المعنى اللغوي لهذه الكلمة، فإنّها تعني الذين لهم قدم ثابتة في العلم والمعرفة.
طبيعي أن يكون معنى الكلمة واسعا يضمّ جميع العلماء والمفكّرين، إلّا أن بين هؤلاء أفرادا متميّزين لهم مكانتهم الخاصّة، ويأتون على رأس مصاديق الراسخين في العلم وتنصرف إليهم الأذهان عند استعمال هذه الكلمة قبل غيرهم.
وهذا هو الذي تقول به بعض الأحاديث التي تفسّر الراسخين في العلم بأنّهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأئمّة الهدى عليهم السلام، فقد سبق أن قلنا إنّ لكلمات القرآن ومفاهيمه معاني واسعة، ومن مصاديقها البارزة الشخصيّات النموذجية السامية التي تذكر أحيانا وحدها في تفسير تلك الكلمات والمفاهيم.
عن بريد بن معاوية قال: قلت لأبي جعفر «الباقر» عليه السلام: قول الله (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) قال: «يعني تأويل القرآن كلّه، إلّا الله والراسخون في العلم، فرسول الله أفضل الراسخين، وقد علّمه جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله منزلا عليه شيئا لم يعلّمه تأويله وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه»[2].
وهناك أحاديث كثيرة أخرى في أصول الكافي[3] وسائر كتب الحديث بهذا الشأن، جمعها صاحبا تفسير «نور الثقلين» وتفسير «البرهان» في ذيل هذه الآية. وكما قلنا فإنّ تفسير الراسخين بالعلم بأنّهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأئمّة الهدى عليهم السلام لا يتعارض مع المفهوم الواسع الذي يشمله هذا التعبير، فقد نقل عن ابن عبّاس أنّه قال «أنا أيضا من الراسخين في العلم» إلّا أنّ كلّ امرئ يتعرّف على أسرار تأويل آيات القرآن بقدر سعته العلمية، فالذين يصدرون في علمهم عن علم الله اللامتناهي لا شكّ أعلم بأسرار تأويل القرآن، والآخرون يعلمون جزءا من تلك الأسرار.
الراسخون في العلم يعرفون معنى المتشابهاتثمّة نقاش هامّ يدور بين المفسّرين والعلماء حول ما إذا كانت عبارة (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) بداية جملة مستقلّة، أم أنّها معطوفة على (إِلَّا اللهَ). وبعبارة أخرى: هل أنّ معنى الآية وأنّه (ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)؟ أم أنّه (ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا)؟ إنّ لكلّ فريق من مؤيّدي هذين الاتجاهين أدلّته وبراهينه وشواهده. أمّا القرائن الموجودة في الآية والأحاديث المشهورة المنسجمة معها فتقول إنّ (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) معطوفة على «الله» ، وذلك:
أوّلا: يستبعد كثيرا أن تكون في القرآن آيات لا يعلم أسرارها إلّا الله وحده.
ألم تنزل هذه الآيات لهداية البشر وتربيتهم؟ فكيف يمكن أن لا يعلم بمعانيها وتأويلها حتّى النبيّ الذي نزلت عليه؟ هذا أشبه بمن يؤلّف كتابا لا يفهم معاني بعض أجزائه سواه!
وثانيا: كما يقول المرحوم الطبرسي في «مجمع البيان»: لم يسبق أن رأينا بين علماء الإسلام والمفسّرين من يمتنع عن تفسير آية بحجّة أنّها من الآيات التي لا يعرف معناها سوى الله، بل كانوا جميعا يجدّون ويجتهدون لكشف أسرار القرآن ومعانيه.
وثالثا: إذا كان القصد هو أنّ الراسخين في العلم يسلّمون لما لا يعرفونه، لكان الأولى أن يقال: والراسخون في الإيمان يقولون آمنّا به. لأنّ الرسوخ في العلم يتناسب مع العلم بتأويل القرآن، ولا يتناسب مع عدم العلم به والتسليم له.
ورابعا: أنّ الأحاديث الكثيرة التي تفسّر هذه الآية تؤكّد كلّها أنّ الراسخين في العلم يعلمون تأويله، وعليه فيجب أن تكون معطوفة على «الله». الشيء الوحيد الباقي هو إنّ خطبة «الأشباح» للإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة يستفاد منها أنّ الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل الآيات ويعترفون بعجزهم.
«وأعلم أنّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب الحجوب»[4].
ولكن فضلا عن كون هذه العبارة تناقض بعض الأحاديث المنقولة عنه عليه السلام التي قال فيها: إنّ الراسخين في العلم معطوفة على «الله» وإنّهم عالمون بتأويل القرآن، فإنّها لا تنسجم أيضا مع الأدلّة التي سبق ذكرها[5]. وعليه فيلزم تفسير هذه الجملة من خطبه «الأشباح» بما يتّفق والأسانيد الأخرى التي بين أيدينا.
الهوامش:[1] النساء : ١٦٢. [2] تفسير العيّاشي : ج ١ ص ١٦٤. [3] اصول الكافي : ج ١ ص ٢١٣. [4] نهج البلاغة : الخطبة ٩١. [5] انظر تفسير نور الثقلين : ج ١ ص ٣١٥.