ومنشأُ وصف شهر رجب بالمرجَّب هو أنَّ العرب -على سنَّة إبراهيم (ع)- كانت تُعظِّمه، فلا تستحلُّ فيه القتال وسفك الدماء، وهو من الأشهر الحُرم. وقد خصَّه الإسلام بالمزيد من التعظيم والفضل، فجعل ثواب عمل الصالحات فيه مضاعفًا، وحثَّ على صوم أيامه وإحياء لياليه بالصلاة والدعاء وتلاوة القرآن والذكر.
وقد ورد وصفه بالمرجَّب في بعض الأدعية المأثورة كالدعاء الذي رواه الشيخ الطوسي (رحمه الله) في مصباح المتهجِّد قال: أخبرني جماعة عن ابن عياش قال: ممَّا خرج على يد الشيخ الكبير أبي جعفر محمد بن عثمان بن سعيد (رضي الله عنه) من الناحية المقدَّسة ما حدثني به جبير بن عبد الله قال: كتبته من التوقيع الخارج إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، ادعُ في كلِّ يومٍ من أيام رجب: "اللهمَّ إنِّي أسألك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاةُ أمرك المأمونون على سرك المستبشرون بأمرك.. وبارك لنا في شهرنا هذا المرجَّب المكرَّم، وما بعده من الأشهر الحرم، وأسبغ علينا فيه النعم، وأجزِل لنا فيه القِسَم، وأبرر لنا فيه القَسَم باسمك الأعظمِ الأعظم الأجلِّ الأكرم.. "([2]).
ومن ذلك الدعاء الذي يُدعى به في يوم المبعث الشريف وهو مأثورٌ عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) أورده الشيخ الطوسي في مصباح المتهجد والسيِّد ابن طاووس في الإقبال: ويبدأ بقوله (ع): "يا من أمر بالعفو والتجاوز.. وهذا رجبٌ المرجَّب المكرَّم الذي أكرمتنا به، أول أشهر الحرم، أكرمتنا به من بين الأمم، يا ذا الجود والكرم، فنسألك به وباسمك الأعظمِ الأعظمِ الأعظم الأجلِّ الأكرم الذي خلقته فاستقر في ظلك فلا يخرج منك إلى غيرك.. "([3]).
وأما وصف شهر رجب بالأصب فمنشؤه كما ورد في الروايات عن أهل البيت (ع) أنَّ الله تعالى قد اقتضت مشيئته وحكمته أنْ يجعل هذا الشهر ظرفًا لاِنصباب وإفاضة المزيد من رحمته تعالى على عباده المؤمنين، فمِن الروايات التي أفادت ما يؤدِّي لهذا المعنى ما ورد في نوادر أحمد بن محمد بن عيسى بسندٍ معتبر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رجب شهرُ الاستغفار لأمتي أكثروا فيه من الاستغفار فإنه غفور رحيم.. إلى أنْ قال: "وإنَّما سُمِّي شعبان شهر الشفاعة لأن رسولكم يشفعُ لكلِّ مَن يصلِّي عليه فيه، وسُمِّي شهر رجب الأصب، لأنَّ الرحمة تُصب على أمتي فيه صبًّا، ويقال: الأصم لأنَّه نهي فيه عن قتال المشركين، وهو من الشهور الحرم"([4]).
ومن ذلك ما أورده فضل الله الراوندي في النوادر بسنده عن عبد الله بن العباس، قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا جاء شهرُ رجب، جمع المسلمين حولَه، وقام فيهم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر من كان قبله من الأنبياء، فصلَّى عليهم، ثم قال: "أيُّها المسلمون قد أظلَّكم شهرٌ عظيمٌ مبارك، وهو شهر الأصب، يصب فيه الرحمة على من عبده، إلا عبدًا مشركًا، أو مظهرَ بدعةٍ في الاسلام، ألا إنَّ في شهر رجب ليلة مَن حرَّم النوم على نفسه قام فيها، حرَّم الله تعالى جسده على النار، وصافحه سبعون الفَ ملَكٍ، ويستغفرون له إلى يومٍ مثله، فإنْ عاد عادت الملائكة، ثم قال: مَن صام يومًا واحدًا مِن رجب، أومِّن الفزع الأكبر، وأُجير من النار"([5]).
وعليه فالظاهر من قوله (ص): "وسُمِّي شهر رجب الأصب، لأنَّ الرحمة تُصب على أمتي فيه صبًّا" أن الأصب مشتقٌ من صبَّ بمعنى سكب وأفرغ، يقال صبَّ الماء يصبُّه صبًّا بمعنى أراقه وسكبه وأفرغه، وماء مصبوب أي مسكوب واسم الفاعل صَبوب وصبيب وصاب والجمع صُبُب، والمصدر صبٌّ، ويُستعمل المصدر بمعنى اسم الفاعل واسم المفعول فيقال: نهرٌ صبٌّ بمعنى صابٌ وصبوب، وماءٌ صبٌّ وخير صبٌّ بمعنى مصبوب.
والظاهر من وصف الرواية شهر رجب بالأصبِّ هو إرادة المصدر الذي يقوم مقام اسم المفعول، فالقياس أنْ يقال رجبٌ الصبُّ أي رجبٌ المصبوبةُ فيه الرحمةُ صبًا، فيكون وصفُه بالأصبِّ على خلاف القياس، ويُمكن أنْ يكون المراد من وصف رجبٍ بالأصبِّ هو إرادة المصدر الذي يقوم مقام اسم الفاعل، فالقياس أنْ يُقال رجبٌ الصبُّ بمعنى الصَبوب والصبيب والصاب أي أنَّه يصبُّ الرحمة صبًّا، فيكون وصفه بالأصب على خلاف القياس. وربما وربما أريد من الأصبِّ صيغة التفضيل فيكون مثل الأجلِّ والأعمِّ. فيكون معنى رجب الأصب هو أنَّه أكثر الشهور مورداً لانصباب الرحمة على العباد.
الهوامش: [1] - لاحظ لسان العرب -ابن منظور- ج1 / ص411، تعذيب اللغة -الأزهري الهروي- ج11 / ص38. [2] - مصباح المتهجِّد -الشيخ الطوسي- ص803-804. [3] - إقبال الأعمال -السيد ابن طاووس- ج3 / ص276-277، مصباح المتهجد -الشيخ الطوسي- ص815. [4] - وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج10 / ص512. [5] - مستدرك الوسائل-النوري- ج7 / ص531، النوادر -فضل الله الراوندي- ص260.