من الأمور التي شغلت الساحة هذه الفترة قضيّة هروب بعض الفتيات وإعلانهنّ الإلحاد، وهذه المسألة تستدعي منّا وقفة مطوّلة عندها لبحث أسبابها وبواعثها: فما الذي يدفع شابّة في مقتبل العمر أن تتخلّى عن دينها وأهلها وبلدها لتلتحق ببلد آخر وتنسلخ عن هويّتها الدينيّة والوطنيّة؟!
إنّ كثيرا من حالات الإلحاد التي رأيناها وسمعنا بها وقرأنا عنها هي في حقيقة الأمر ليست كذلك، فعندما تسأل هذا الملحد: ما هو إلحادك؟
فسيقول: أنا أنكر وجود الله!
وإذا سألته ثانيا وقلت: صف لي الإله الذي تنكر وجوده؟
ستجد أنّ الإله الذي ينكره هو إله نسجته مخيّلته نتيجة عوامل داخليّة وخارجيّة، وليس الإله الذي قام عليه البرهان العقلي ونادت به الأديان السماويّة، بل هو في حقيقة الأمر صورة مشوّهة لفكرة الإله هي في حقيقة الأمر مزيج بين ثقافة شعبيّة وعادات وتقاليد وسلوكيّات أفراد مقرّبين منه!
ففي النهاية هو لم يكفر بالله ولم يكفر بالدين بل كفر بشيء آخر لعلّك أنت أيضا كافر به، وقد وجّهت هذا السؤال لأحد الملحدين في مرّة من المرّات فأعطاني صفات ماديّة للإله أشبه ما يكون بآلهة اليونان والإغريق، فقلت له: أنا أيضا ملحد مثلك لأنّي أكفر بهذا الإله أمّا الإله الحقيقي فأنا مؤمن به، وأنت لو عرفته ستؤمن به قطعا.
هكذا فإن حالة التمرّد التي يعلنها الملحد ليست على الدين كما ظننّ بل هو تمرّد على واقع مرّ يعشه غلّفته الثقافة الشعبيّة باسم الدين:
فمن الأمور التي يعيش تحت وطأتها كثير من البنات مثلاً، قضيّة سوء استغلال الوالدين لسلطتهما بحيث يتمّ استغلال مفهوم "برّ الوالدين" في التحكّم التام في حياة البنت سواء في قضيّة الدراسة أو العمل أو الزواج بل في كلّ تفاصيل الحياة بحيث لا يترك للبنت أيّ مجال للاختيار وكأنّ المسألة عبوديةﱠ.
بل قد تصل القضيّة إلى استعمال العنف الشديد من الوالدين، وقد وقفت على بعض الحالات التي دخلت البنت المستشفى بسبب ضرب الأب أو الأم، وطبعا عندما تسأل عن سبب هذا سيأتيك الجواب سريعا منهم بأنّ الله قد أعطاني هذا الحقّ ولي ولاية على ابنتي بل حتّى المجتمع قد يقبل هذا من الوالدين ويتغاضى عنه.
وعندما تنتقل البنت إلى بيت الزوجيّة ستجد بانتظارها من يسيء استخدام سلطته أيضا باسم الدين وهو "الزوج" الذي لن يكون حاله أفضل من الوالدين، فقد يمنعها من الخروج تحت عنوان "الإذن" وقد يعنّفها تحت عنوان "واضربهنّ" وقد وقد وقد...
فالمرأة ترى أنّها في واقعها مضطهدة مظلومة وكلّ هذا يغلّف باسم الإله الدين فستتشكّل في ذهنها صورة الإله الشرّير الإله السادي الذي يسمح بالضرب والتعذيب للمرأة والذي يفضّل الذكور على الإناث وبالتالي تتولّد في دواخلها حالة الكراهة لهذا الإله.
ومن هنا تبدأ حالة التمرّد على الشيء الذي سبّب اضطهادها وظلمها وهو "الإله والدين"، ولكن في حقيقة الأمر هي تمرّدت على واقع اجتماعيّ مغلّف بغلاف ديني لا أنّه تطبيق اجتماعيّ سليم للدين الإلهي وشتّان بين الأمرين!
ومن هنا مواجهة هذه المشكلة تبدأ بتقييم هذه الظواهر الاجتماعيّة لا سيما الأسريّة منها وعرضها على ميزان الشرع بدون مجاملة، والأهمّ من هذا خلق وعي عام في المجتمع لرفض مثل هذه الممارسات كالضرب والتعنيف والحرمان فكما أنّ الأبناء يعقّون آباءهم كذلك الآباء قد يعقّون أبناءهم فيكونون سببا في عقوقهم عند الكبر.