كثيراً ما يطرح عليَّ هذا السؤال، وهو أنَّ الدين كان يعتمد على الخرافة، ومن الخرافات الموجودة في الدين تفسير الدينين لبعض الظواهر الكونية، كتفسير ظاهرتي الخسوف والكسوف بأنهما بسبب الذنوب والمعاصي ونحو ذلك، أو تفسير الأمراض، كأن يقال إصابة شخص بمرضٍ بسبب ارتكابه ذنبًا، ومع تطور العلم في يومنا هذا وبيانه أنَّ سبب المرض هو دخول بعض البكتيريا أو الفيروسات إلى البدن، انكشف أن هذه خرافة.
لا يقول بهذا عالم يعتد به!
وفي الحقيقة فإنني لم أجد عالم دينٍ يعتد به وبرأيه يقول بأنَّ ظاهرتي الخسوف والكسوب سببهما ذنوب الناس، وضعوا خطاً تحت كلمة (يعتد به)، فليس كل من يدعي أنه عالمٌ هو عالمٌ، يقول الإمام العسكري (صلوات الله وسلامه عليه): "سيأتي زمان على الناس وجوهم ضاحكة مستبشرة وقلوبهم مظلمة متكدرة... كل جاهل عندهم خبير"، فأي شخصٍ يتكلم عند هؤلاء فهو خبيرٌ ومتخصصٌ، وهذا ما هو موجودٌ في زماننا الحاضر، وخاصةً إذا كان المتكلم لديه ثروة في المفردات وقدرة على سبك العبارات فيظن الناس بأنه خبيرٌ، فإذا قلتُ بأنَّه لا يوجد شخصٌ معتدٌ به، فأقصد بذلك شخصًا متخصصًا يعترف بأنَّه عالمٌ متخصصٌ في الحوزة العلمية، والتي يعبر عنها بعض الحداثيين بالمؤسسة الدينية.
دعوة إلى الخوف لا التحليل
في تراثنا عدة من الروايات تدل على أنَّه إذا رأى المرء ظاهرتي الخسوف والكسوف ينبغي أن يخاف، وهذا أمرٌ طبيعيٌ، فإنَّه إذا فعل الله (تبارك وتعالى) أمراً استثنائيًا في كوكبين عظيمين لا قدر للإنسان أمامهما، فإنَّ هذا ينبه إلى أنَّ كل شيءٍ بقدرة الله (تبارك وتعالى) وأنه مقهورٌ بهذه القدرة، فعليه أن يخشى ويخاف من هذه القدرة القادرة على أن تغير حاله كما غيرت حال الشمس والقمر. هذا ما يطرحه العلماء، وليس العلماء في مقام طرح أن ظاهرتي الخسوف والكسوف لا تحصل بسبب حركةٍ معينةٍ للشمس والقمر والأرض وإنما تحصل بسبب الذنوب والمعاصي، وهنا لست أدعي أنَّ كل عالمٍ في الحوزة العلمية أو كل منتسبٍ للحوزة العلمية هو من أهل العصمة ولا يمكن أن يقع في الخطأ، ولكن ما أدعيه بأنَّ التوجه العام لعلماء الدين ليس هو الدعوة إلى هذا الأمر، وإنما يدعون إلى الخوف من الله (تبارك وتعالى) كلما أعمل الله (جلَّ شأنه) قدرته بإظهار عظيم صنعه. و من المفيد جداً أن نلاحظ بعض الروايات في هذا وذكرها الحر العاملي(رحمه الله) في وسائل الشيعة في (أبواب صلاة الكسوف والآيات) ومنها:
1ـ بإسناده عن الفضل بن شاذان، عن الرضا (عليه السلام) قال: إنما جعلت للكسوف صلاة لأنه من آيات الله، لا يدري الرحمة ظهرت أم لعذاب؟ فأحب النبي (صلى الله عليه وآله) أن تفزع أمته إلى خالقها وراحمها عند ذلك ليصرف عنهم شرها ويقيهم مكروهها كما صرف عن قوم يونس (عليه السلام) حين تضرعوا إلى الله عزّ وجلّ، الحديث .
2ـ محمد بن محمد بن المفيد في (المقنعة) قال: روي عن الصادقين (عليهم السلام)، أن الله إذا أراد تخويف عباده وتجديد الزجر لخلقه كسف الشمس وخسف القمر، فاذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الله تعالى بالصلاة .
3ـ محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عمرو بن عثمان، عن علي بن عبدالله قال: سمعت أبا الحسن موسى (عليه السلام) يقول: إنه لما قبض إبراهيم بن رسول الله (صلى الله عليه وآله) جرت فيه ثلاث سنن: أما واحدة فانه لما مات انكسفت الشمس، فقال الناس: انكسفت الشمس لفقد ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فصعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس، إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره، مطيعان له، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فاذا انكسفتا أو واحدة منهما فصلوا، ثم نزل فصلى بالناس صلاة الكسوف.
4ـ محمد بن الحسن بإسناده عن حماد، عن حريز، عن زرارة ومحمد بن مسلم قالا: قلنا لأبي جعفر (عليه السلام) هذه الرياح والظلم التي تكون، هل يصلى لها ؟ فقال: كل أخاويف السماء من ظلمة أو ريح أو فزع فصل له صلاة الكسوف حتى يسكن .
5 ـ وفي (المجالس): عن أحمد بن الحسن القطان، عن الحسن بن علي السكري، عن محمد بن زكريا البصري، عن محمد بن عمارة، عن أبيه، عن الصادق، عن أبيه (عليهما السلام) قال: إن الزلازل والكسوفين والرياح الهائلة من علامات الساعة، فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فتذكروا قيام الساعة وافزعوا إلى مساجدكم.
6 ـ محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن النضر، عن عاصم، عن أبي بصير قال: انكسف القمر وأنا عند أبي عبدالله (عليه السلام) في شهر رمضان، فوثب وقال: إنه كان يقال: إذا انكسف القمر والشمس فافزعوا إلى مساجدكم .
7ـ محمد بن علي بن الحسين قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بتقديره وينتهيان إلى أمره، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياة أحد، فإن انكسف أحدهما فبادروا إلى مساجدكم .
فإن هذه الروايات بمجموعها تدل على أن الكسوف والخسوف من آيات الله التي توجب الخوف، فإن تقدير الله تعالى من الأزل لحكمة، وقد قدر الآيات الكونية لحكمة، ولا مانع أن يكون منها كسر حالة الجمود بإحداث ظاهرة ترجع العبد إلى خالقه و توجب أن يلتفت إلى عظيم قدرته، وهذا ما يظهر من (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بتقديره وينتهيان إلى أمره)، فإن حركة الشمس والقمر وفق تقدير إلهي كوني دقيق، والحدث ينبغي أن يذكر بالله تعالى: (فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فتذكروا قيام الساعة وافزعوا إلى مساجدكم).
لكن هذه الآيات للتخويف لا لوجود نظام كوني!
وقد تقول: في الروايات (إن الله إذا أراد تخويف عباده وتجديد الزجر لخلقه كسف الشمس وخسف القمر، فاذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الله تعالى بالصلاة) و هذا يدل على أن الله يحدث الخسوف والكسوف للتخويف، وليس هذا لوجود قانون كوني حاكم كما هو مقرر في العلم الحديث.
والجواب: إن كونه تعالى أراد التخويف لا ينافي أن يكون سير الكواكب وفق نظام دقيق، فهو تعالى أراد ذلك من أول الخلقة بإيجاد نظام كوني دقيق يحدث ظاهرة الخسوف والكسوف، على أن الرواية مرسلة في كتاب المقنعة للشيخ المفيد (رحمه الله) ص 208 .
وهنا ينبغي أن نلتفت إلى شيء، وهو أن آيات الله تعالى التي توجد صلاة لها لا تنحصر في الخسوف والكسوف، فمنها الريح والظلمة، وفي الرواية (كل أخاويف السماء من ظلمة أو ريح أو فزع فصل له صلاة الكسوف حتى يسكن)، وكثير من هذه الظواهر لا يمنع العلم أن تكون بتدبير من الله تعالى بسبب الذنوب والمعاصي، فخضوعها لقانون عام لا يعني خروجها عن سلطان الله تعالى.