بسم الله الرحمن الرحيم
سؤال: يفتي معظم الفقهاء بأنه (لا عبرة برؤية الهلال بالعين المسلّحة سواء بالنسبة إلى الرائي وغيره). ويسأل البعض عن وجه هذه الفتوى مع أن (الرؤية) المذكورة في النصوص (صم للرؤية وأفطر للرؤية) تعمّ بإطلاقها الرؤية بالعين المجرّدة والعين المسلّحة، ومجرّد عدم كون الرؤية بالعين المسلّحة متيسرة في عصر المعصومين عليهم السلام لا يمنع من شمول الإطلاق لها، فأي وجه لعدم الاعتماد على الأجهزة الحديثة في رؤية الهلال مع أنه تتم الاستعانة بها في تشخيص سائر الموضوعات الشرعية؟
الجواب: هذا بحث تخصصي وليس متاحاً في بعض جوانبه الا لأهل الاختصاص ولكن نذكر ما ربما يسع استيعابه لغيرهم أيضاً فنقول: إن القرآن الكريم قد دلّ على أن أهلة الشهور إنما جعلت مواقيت يعتمد عليها الناس في أمور دينهم ودنياهم، قال تعالى: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ] وما يصلح أن يكون ميقاتاً لعامة الناس هو الهلال الذي يظهر على الأفق المحلي بنحوٍ قابلٍ للرؤية بالعين المجرّدة، وأما ما لا يرى إلا بالأدوات المقربة فهو لا يصلح أن يكون ميقاتاً للناس عامة.
وبعبارة أخرى: حكم الهلال في الليلة الاولى والليالي اللاحقة من الشهر حكم عقارب الساعة، فكما أن عقاربها تحكي بحركتها الدورية عن أوقات الليل والنهار، كذلك القمر بأوضاعه المختلفة ــ حيث يزداد جزؤه المضيء ليلة بعد أخرى ثم يبدأ بالتناقص حتى يدخل في المحاق ــ تحكي عن عدد الليالي في الشهر القمري، ومعنى جعل الأهلة مواقيت للناس هو أن ظهورها بمراحلها المختلفة بمثابة عدّاد سماوي مشهود لعامة الناس يمكنهم الرجوع اليه لمعرفة ايام الشهر القمري لتنظيم شؤون دينهم ودنياهم، وهذا يقتضي أن تكون العبرة في رؤيته بما يتيسر التأكد منه لعامة الناس لا لخصوص من يمتلك جهازاً صناعياً يكشف عن وجود الهلال في الأفق في الوقت الذي لا يتيسر التحقق من ذلك لغيره. فان هذا لا ينسجم مع كون الأهلة مواقيت للناس عامة.
ومن هنا يعلم أن عدم الأخذ بالرؤية بالتلسكوب ونحوه في اثبات الهلال ليس من جهة الاحجام عن الاستعانة بالأجهزة الحديثة في تشخيص موضوع الحكم الشرعي، بل من جهة أن ما جعل موضوعاً له إنما هو من قبيل ما يعتبر أن يكون قابلاً للتحقق من وجوده لعامة الناس ممن يملك عيناً سليمة حتى أهل الارياف وسكنة البراري والجبال ممن لا طريق لهم للتحقق من ظهور الهلال في الأفق الا أعينهم.
ونظير المقام ــ من وجه ــ أن من موجبات الجنابة هو خروج السائل المنوي من الرجل، وعندما تجرى له عملية استئصال غدة البروستات يؤدي ذلك عند المقاربة الى رجوع المني الى المثانة وخروجه مستهلكاً في البول، فاذا أخذت عيّنة من بوله واكتشف في المختبر بالمجهر اشتمالها على بعض الحيوانات المنوية لم يحكم على صاحبها بوجوب الغسل، لان ما يوجبه هو خروج المني وهو ما لم يحصل، وأما احراز وجود حيوانات منوية فيما يخرج من البول بالأجهزة الحديثة فهو مما لا أثر له، لعدم تحقق موضوع وجوب الغسل بذلك.
ونظيره أيضاً ما اذا خرج من وطنه وابتعد عنه بحيث لا يراه من يسكن فيه الا بالمنظار ونحوه، أو لا يسمع هو صوت الأذان المرفوع فيه الا ببعض الآلات المعدّة لالتقاط الاصوات من الامكنة البعيدة، فانه لا يتأخر وصوله الى حد الترخص بهذا المقدار بل يصل اليه اذا لم يكن يراه أهل بلده بالعين المجردة، وعلى رأي اذا لم يكن يسمع الأذان المرفوع فيه بأذُنه المتعارفة، لأن ما هو موضوع الحكم بوجوب التقصير في الصلاة والترخيص في الافطار في شهر رمضان هو الابتعاد عن الوطن بهذا المقدار وليس عدم الرؤية أو عدم السماع بعنوانهما.
وهكذا أيضاً ما اذا نظّف السمكة مما فيها من الدم ــ وهو ما يحرم أكله وإن كان طاهراً ــ ولكن لاحظ بالمجهر بقاء جزيئات صغيرة جداً من الدم فيها بحيث لا ترى بالعين المجردة، فانه لا يضر ذلك بجواز أكلها، لأن موضوع حرمة الأكل هو ما يعدّ دماً بالنظر العرفي، وتلك الجزيئات لا تعدّ كذلك.
فهذه الموارد تختلف عن موارد أخرى يمكن أن يكون للأجهزة الحديثة دور في تحقق موضوع الحكم الشرعي أو احراز تحققه، ومن أمثلته:
1 ـ ما اذا شك في وقوع شيء من النجاسة في كأس من الماء فنظر بعينه المجردة فلم يجد شيئاً ثم نظر بالمجهر فوجد فيه ذرة من النجاسة لا ترى بالعين المجردة، فانه يحكم فيه بتنجس الماء لان موضوع الحكم بالتنجس هو الملاقاة مع النجاسة ولو بمقدار ذرة منها وقد أمكن احرازها ولو بالمجهر.
2 ـ ما اذا نظر الى ما يحرم النظر اليه ــ كبدن غير المحارم من النساء ــ بالمنظار أو نحوه، فانه يحكم بكونه آثماً لأن موضوع الحرمة هو النظر وقد تحقق ولو بالآلة.
3 ـ ما اذا تجسس على الغير بآلات التنصت الحديثة، فانه يكون مرتكباً للحرام لصدق التجسس الذي هو موضوع الحكم بالحرمة ولا خصوصية للتنصت بلا واسطة.
4 ـ ما اذا مات زوج الحامل واريد تقسيم تركته على سائر الورثة بعد عزل مقدار نصيب الحمل، فان استعين بالسونار ـ مثلاً ـ للتعرف على حاله من أنه واحد أو متعدد ذكر أو أنثى أخذ بمقتضاه، لأن موضوع الحكم بوجوب عزل مقدار نصيب الحمل من تركة المتوفى قبل تقسيمها هو ما يحتمل أن يكون عليه من الوحدة والتعدد والذكورة والأنوثة فإن تيسر تشخيص ذلك بالأجهزة الحديثة لزم العمل بذلك.
5 ـ ما اذا شُك في مولود أنه ابن فلان أو لا فأجري عليه فحص الحمض النووي ( DNA ) فكشف عن التطابق بينهما في الجينات الوراثية، فانه يؤخذ بمقتضاه، لأن موضوع الحكم ببنوة المولود لرجل هو تكونه من حيمنه وهو ما أمكن احرازه بالفحص المذكور حسب الفرض، فتترتب عليه أحكامها.
والحاصل: إن التفريق بين الموارد بإمكان الاستعانة في بعضها بالأجهزة الحديثة للرؤية أو الاستماع أو نحوها وعدم العبرة بها في البعض الآخر إنما هو من حيث اختلاف الموارد فيما هو موضوع الحكم الشرعي، وليس للفقيه الا التقيد بذلك حسب ما يستفيده من الادلة.
وفي مورد الهلال استفاد معظم الفقهاء من جعل الأهلة مواقيت للناس ـ كما نصت عليه الآية المباركة ـ أنها مقياس زمني يتاح لعامة الناس الرجوع اليه وتنظيم أمورهم المعيشية والدينية بذلك، لا أنه مقياس لا يتسنى الا للبعض منهم خاصة بحيث لا يستفيد منه الآخرون الا بالرجوع الى ذلك البعض الذي يملك الآلة المقربة لرؤية الهلال.
وبذلك يعرف أنه لو كان العلماء قد توصلوا الى صنع التلسكوبات في عصر المعصومين لما كانوا (عليهم السلام) يأخذون برؤية الهلال بها، ليس استنكافاً عن الاستعانة بالأجهزة الحديثة، بل لأن الهلال الذي لا يكون ظاهراً لعامة الناس لم يجعل ميقاتاً لهم.
وبهذه القرينة يتعين أن تكون الرؤية المذكورة في نصوص الصيام والإفطار طريقاً الى ظهور الهلال في الأفق المحلي بحيث يكون قابلاً للرؤية بالعين المجردة لعامة الناس، ولا اطلاق لها لتشمل الرؤية بالأدوات المقربة.
مضافاً إلى أنه لو بني على كون المناط في دخول الشهر بظهور الهلال في الأفق بنحوٍ قابلٍ للرؤية ولو بأقوى التلسكوبات والأدوات المقرّبة لاقتضى ذلك أن صيام النبي (ص) والأئمة (ع) وفطرهم وحجهم وسائر أعمالهم التي لها أيام خاصة من الشهور لم تكن تقع في كثير من الحالات في أيامها الحقيقية، لوضوح أنهم (عليهم السلام) كانوا يعتمدون على الرؤية المتعارفة في تعيين بدايات الأشهر الهلالية، مع أنهم ــ وكذلك كثير من أهل النباهة في عصرهم ــ كانوا على علمٍ بأنه قلّما يرى الهلال بالعين المجرّدة واضحاً ومرتفعاً في ليلة الا ويكون في الليلة السابقة عليها قابلاً للرؤية بأداة مقرّبة قوية لو كانت متوفرة، فلماذا لم يعهد منهم ولا من غيرهم التعويل على ذلك في عدّ الهلال لليلتين عندما يرى لأول مرة واضحاً ومرتفعاً؟!
والحمدلله رب العالمين.