ليس الدين هو مجرد إكثار التعبد لله سبحانه وتعالى أو الجهاد في سبيله، بل هو نحو من التعقل الجامع لحقيقة الحياة والحكمة فيها والعمل بموجبها، وربّ تعبد زيّن تصرفات المرء الباطلة لنفسه فازداد به جهلاً، أو قتال نشأ من مآرب خفية أو انفعالات غير مهذبة فظن أنها جهاد في سبيل الله فازداد من الله تعالى بعداً، وقد جاء عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال وقد رأى خارجياً يتعبد في آناء الليل: "نوم على يقين خير من صلاة في شك".
كما ينبغي الالتفات إلى أن التربية الدينية هي جماع الفضائل، فمن وجد في تربيته نقصاً وخللاً فلا يستند ذلك إلى الدين في شيء، بل ينشأ من عدم فهمه للدين أو عدم تمكن الدين من نفسه حتى يكون ملكة له وخلقاً، وإنما حفظه كعقائد آمن بها من غير أن يربي نفسه على مقتضاها.
وكيف لا يكون الدين كذلك مع توجيهه دائماً إلى العقل في أصوله وفروعه وتذكيره بروائع الحِكَم في هذه الحياة مما يهدي طلاب الحكمة والبصيرة، فتأمل ما جاء في الكتاب وقِصار كلمات النبي (ص) ونهج البلاغة تجد خطاباً متوجهاً إلى العقل منيراً للفطرة محفزاً للضمير محركاً للوعي، وانظر إلى القادة المُصطَفَينَ فيه كالنبي (ص) ووصيه (ع) في سيرتهم وسلوكهم تجدهم من أكثر الناس اعتدالاً وحكمة، وأقواهم فطرة وعقلاً وأوضحهم فطنة وذكاءً وأحسنهم زكاة وتربية حتى كانوا بحق أسوة لسائر الخلق.
ولا يظنن أحد بأن في ما ورد من التعبد في الدين ما ينافي احترام العقل، فإنه لم يرد التعبد بشيء يخالف قضاءً واضحاً للعقل، وما ظن فيه مثل ذلك لا يخلو عن أحد أمرين:
إما أن يكون العقل بعد استجماع التأمل والالتفات إلى جميع حيثيات الموضوع وأبعاده متحيراً بين خيارات عديدة فيرد الشرع بأحدها.
وإما ألا يكون للعقل إدراك نافٍ أو مثبت أصلاً، فالتسليم بما تُعبِّد به في مثله مما لا ينافي العقل بل هو من تمامه، فإن من وجوه الإذعان المنطقي بالشيء التعويل على أهل الخبرة فيه، وعدم الريبة في قولهم بمجرد ظنون واحتمالات، ألا ترى أن المريض العاقل يعتمد على قول الطبيب الخبير الثقة من دون ترديد يقدح بثقته به وتعويله عليه.
من كتاب (أصول تزكية النفس وتوعيتها، ص٢٤).
آية الله السيد محمد باقر السيستاني