لم يخلق الله سبحانه الخلق عبثا، فقال: (أ فحسبتم أنما خلقناكم عبثا)[1]، بل خلقهم لأغراض إلهية وغايات كمالية يتوجهون إليها بحسب جبلتهم ويسيرون نحوها بفطرتهم بما جهزهم به من الأسباب والأدوات وهداهم إليه من السبيل الميسر لهم كما قال: (أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)[2]، وقال: (ثم السبيل يسره)[3].
والسبيل الى الكمال هو التقوى والورع، بالالتزام بفعل الخيرات والاجتناب عن الشرور، لقوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى)[4].
والمتوقع الوصول الى غاية خلق الانسان من غير هذا الطريق كالطامع في الشبع من غير أكل أو الري من غير شرب أو الانتقال من مكان إلى آخر من غير حركة؛ فإنما الدار دار سعي وحركة لا تنال فيها غاية إلا بسلوك ونقله، قال تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وإن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى)[5].
والعقل وان كان قادراً على إدراك ما تقدم، وما ذكرنا من آيات انما هي مرشدة لحكم العقل المذكور، إلا انه ـ أي العقل ـ عاجز عن إدراك صغريات التقوى والورع، أي انه وإن ادرك ضرورة سلوك الطريق إلا انه لا يعرف ماهي الأمور التي يجب عليه فعلها، وما هي الأمور التي يجب عليه تركها، وهنا يأتي دور النبوة، فتشكل النبوة حجر الزاوية في سير الإنسان نحو الهدف الذي خلق من أجله، قال تعالى: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[6].
وهذه العلة أي توقف وصول كل انسان الى كماله على اتباع طريق الوحي والنبوة ملاك عام يثبت به ضرورة ولزوم النبوة لجميع الأجيال والأمم؛ لذا قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً)[7]، وقوله: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ)[8]، وقوله ايضاً: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)[9]، وقول أمير المؤمنين في بيان ضرورة بعث الانبياء لجميع الأمم: ولم يخل الله سبحانه خلقه من نبي مرسل، او كتاب منزل، او حجة لازمة، او محجة قائمة، رسل لا تقصر بهم قلة عددهم ولا كثرة المكذبين لهم[10].
وقوله عليه السلام: فلمّا مهّد أرضه وأنفذ أمره، اختار آدم (عليه السلام).... ولم يخُلهم بعد أن قبضه، ممّا يؤكّد عليهم حجّة رُبوبيّته، ويصل بينهم وبين معرفته، بل تعاهدهم بالحُجج على ألسُن الخِيرة من أنبيائه، ومتحمِّلي ودائع رسالاته، قرناً فقرناً حتى تمّت بنبيّنا محمّد(صلى اللّه عليه وآله وسلم) حجّته، وبلغ المقطعَ عُذرُه ونذرُه[11].
ولا نقصد من عمومية الرسالة بعث النبي في كل مدينة او قرية، بل المقصود وصول دعوى النبي الى الجميع، ولو عن طريق مبعوثين يرسلهم النبي، ليقوموا بإبلاغ رسالته ونشر دعوته بين الناس بالطرق والوسائل المناسبة في كل زمان، نظير الرسل الذين ارسلهم عيسى بن مريم عليه السلام الى انطاكية، يقول تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ)[12]، وكما ان النبي الخاتم صلى الله عليه واله كان يبعث رسلاً الى المدن والبلاد ويدعو الناس الى التوحيد والايمان برسالته.
هذا من جانب أي عمومية النبوة، ومن جانب آخر، فالقرآن صريح بختم النبوة بمحمد بن عبد الله صلى الله عليه واله حيث قال: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)[13]، ومن خلال ملاحظة هذين الأمرين: عمومية النبوة وخاتميتها بالنبي الأكرم صلى الله عليه واله يتضح لزوم ان تكون نبوته عالمية ولكل البشر، وهذا ما صرح به القرآن الكريم عندما اثبت عالمية نبوة النبي صلى الله عليه واله وبعثه لكل البشر، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)[14]، وقوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)[15]، وقوله ايضا: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)[16]. وقد أمر الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه واله بدعوة النصارى للإسلام بقوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)[17]، وقد ضمن النبي صلى الله عيه واله هذه الآية في رسالته الى قيصر ملك الروم[18].
وكذلك أمر سبحانه في آية أخرى رسوله بدعوة معشر اليهود أو الناس جميعا إلى اتباع ملة إبراهيم قال سبحانه : (فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[19].
من هنا يتضح سقوط ما اثاره البعض مؤخراً من التشكيك بعالمية الإسلام، ومحاولة تحجيمه وقصره على الجزيرة العربية، فالعقل اضافة الى النقل صريحان في عموميته لكل البشر، والشمس لا يحجبها غربال.
الهوامش:
[1]المؤمنون: 115.
[2][2] طه: 50.
[3] عبس: 20.
[4] الليل: 10.
[5] النجم: 41.
[6] البقرة: 38 ـ 39.
[7] النحل: 36.
[8] فاطر: 24.
[9] الرعد: 7.
[10] نهج البلاغة: الخطبة: 1.
[11] نهج البلاغة: الخطبة: 91.
[12] يس: 13 ـ 14.
[13] الاحزاب: 40.
[14] سبأ: 28.
[15] الأعراف: 158.
[16] الفرقان: 1.
[17][17] آل عمران: 64.
[18] السيرة الحلبية 2 : 275 ، مسند أحمد 1 : 262 .
[19] آل عمران: 95.