إنّ أي انسان لا يصحّ له أن يتصدى للطبّ والطبابة ما لم يكن ملمّاً بعلوم الطب المعتبرة التي تقرّها المؤسسات الطبيّة المعتبرة; وذلك لعدم اندراجه في عنوان «أهل الخبرة» حتى يسوغ له أن ينظر في أمر المريض ويكون الرجوع إليه من قبيل رجوع الجاهل إلى العالم الذي هو أمر بديهي وطبيعي في استقرار الحياة الإنسانية، بل يكون من قبيل رجوع الجاهل إلى الجاهل الذي لا يقرّه العقلاء ولا الشرع، فلا يكون تصدّيه صحيحاً ولا مبرءً لذمّته إذا تضرر المريض بذلك التدخل الباطل.
ويؤيده ما روي من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «من تطبّب ولم يُعلَم منه طبّ فهو ضامن»[1] .
ومع تقدم الطبّ وتطور الأبحاث والتكنولوجيا في العمليات الطبيّة الذي أدّى إلى ظهور الاختصاصات المتعددة، فلا يحلّ لمن كان ملمّاً بطب القلب - مثلا - ولم يكن ملمّاً بطبّ العيون أن يتصدى لطبّ العيون; حيث يصدق عليه أنّه تطبّب ولم يُعلم منه طبّ، فيكون ضامناً .
وبما أنّ الطبيب يكون وكيلا أو أجيراً للمريض في الاشراف على جسمه والتصرف فيه عند مراجعة المريض له، فهذا يعني أنّ الطبيب مسؤول عن معالجة مريضه بقصد الشفاء، ويعمل كل ما فيه المصلحة من أجل شفاء المريض، ولا يجوز له أن يهمل فيقصّر أو يتعدى على المريض وجسمه بما ليس فيه مصلحة للمريض .
وهكذا نعرف: أنّ الطبيب إذا عمل بوظيفته الطبيّة ورضي المريض بكونه أجيراً له ومعالجاً لمرضه، وقصد الطبيب بعمله هذا شفاء المريض ، ولم يقع الطبيب في إهمال المريض أو التعدي عليه، بأن عمل على حسب القواعد الفنيّة لعلم الطب، ولم يصدر منه خطأ أو إهمال لا تقرّه الأبحاث الطبيّة العلمية فقد عمل بوظيفته وخرج عن المسؤولية اتّجاه المريض، سواء كانت النتيجة مرضية للمريض أم غير مرضية.
وقد يستدل لهذا: بأنّ تطبيب المريض صار سائغاً، وإذا صار سائغاً لا يستتبع ضماناً، على أننا إذا شككنا في الضمان فالأصل عدمه.
وهذا على حسب القاعدة حيث يضمّن الفقهاء كل أجير قد أخلّ بعمله الذي استؤجر له; فكل من آجر نفسه لعمل في مال أو غيره إذا أفسد ذلك المال ضمن كالحجّام إذا جنى في حجامته. والختّان في ختانه، وهكذا الخياط والنجّار والحدّاد إذا أفسدوا.
هذا إذا تجاوز الحدّ المأذون فيه. أمّا إذا لم يتجاوز ففي الضمان إشكال، وكذا الطبيب المباشر للعلاج بنفسه إذا أفسد فهو ضامن.
إذاً، ما يُطلب من الطبيب هو أن يقدّم لمريضه العناية اللازمة حسب ما يقتضيه الوجدان والفن، ولا يُسأل إلاّ إذا أهمل أو تعدّى في ذلك .
ولكن مع هذا، فقد يتعرّض الطبيب إلى انتقادات، فقد يتّهم بالتقصير لأنّه لم يلجأ إلى الأساليب الحديثة التي ذكرها علم الطب الحديث، كما أنّه قد يتّهم بالتهور والتعدي فيما إذا لجأ إلى الأساليب الحديثة بحجة إذا لم يثبت بعدُ رواجها وفائدتها بلا ضرر بصورة أكيدة، وهكذا نرى أنّ الطبيب «المحافظ» كالطبيب «المتجدد» كلاهما عرضة للنقد والانتقاد من الناحية الفنية.
مقتطف من كتاب : بحوث في الفقه المعاصر، للشيخ حسن الجواهري.
[1] راجع : سنن أبي داود 2 : 387 . سنن النسائي 8 : 53 . مستدرك الحاكم 4 : 212 . والظاهر أنّ المراد من كلمة الضمان هنا هي المسؤولية الأعمّ من الضمان الاصطلاحي والعقاب الدنيوي والأُخروي .