اذا رأيت مجتمعا ما يعيش السلام والأمن والاستقرار - وإن اختلفوا في الفكر والعقيدة - فاعلم انه قد أتقن فن الحوار ولغة التفاهم وقبول الآخر، بل ربما يكون قد ضحى بالغالي والنفيس لإتقانها، وسعى من أجل تغليب المصالح العامة دون الخاصة، واحترام حقوق شركائه على اختلافهم ضمن الضوابط المتعارف عليها عقلياً وأخلاقياً، والأهم من ذلك، أنه هجر الأسلوب المتشنج في خطابه مع الآخرين. كل ما تقدم من عوامل كفيلةٌ بخلق بيئة الانسجام والوئام والسلام في البلاد.
لكن، مما يؤسف اليه أننا - في أغلب البلدان الاسلامية - فقدنا الكثير من هذه العوامل وصار شغلنا الشاغل هو التركيز على خطاب التطرف والكراهية وكل ما يثير النزاعات، وبالتالي فقدان لغة التفاهم والسلام، ومن هنا لعلنا فيما يلي نمسك بأهم الخيوط الموصلة الى إتقان لغة التفاهم:
1- تقديم المصلحة العامة على الخاصة:
عندما يؤمن الفرد أن المكسب الشخصي - ماديا كان او معنويا - اذا كان مضرا بالمصلحة العامة يجب اجتنابه؛ هذا النوع من التفكير بحد ذاته يعكس جمال ونزاهة الشخصية، ولكن السؤال: كيف ننمي هذا النوع من التفكير في الفرد ليصبح تفكيرا نوعيا في مجتمعنا؟
لا شك أن هذا النوع من الكسب تعود عاقبة أضراره على الفرد نفسه حين يتضرر المجتمع، ولكن أغلب الافراد يحتاج الى بيان أوجه الضرر اللاحقة به بالطرق المقنعة، وهذا النحو من الثقافة - أي بيان أوجه الضرر للفرد نفسه فضلا عن المجتمع - ينبغي ان تبدأ من لبنة الأسرة وانتهاءً الى أعلى مستويات المسؤولية.
فلو غلّب الفرد هذا الاسلوب من التفكير، تحكم في جميع حركاته وسكناته ومواقفه، وصار ينتقي المفردة والسلوك وحتى الإشارة التي تصبُ في الصالح العام.
وأجلى من جسد هذا النمط من التفكير على أرض الواقع عليٌ أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كثيراً ما غلّب السلام على الحرب والمواجهة في سبيل المصلحة العامة، إذ قال: (لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي، و وَاللَّه لأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، ولَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً..) 2
2- احترام حق الآخر:
من أهم المسائل التي اهتم بها العلماء - عموما - هي عدم تضييع حق الاخر واحترامه، ولكن الكثير قد وقع في لبس من حيث تطبيق هذه المفردة بين الافراط والتفريط.
فالبعض قد فهم أن كل فكرة تخطر في الذهن لا مانع من تطبيقها على أرض الواقع مهما كانت عواقبها، وفي الجهة الأخرى بعضٌ قد تعسف ويريد الغاء حقوق الغير جملة وتفصيلا!!
ولو رجعنا الى النقطة الأولى لتلمسنا ما يُقَرّب بين وجهات النظر تحت عنوان عام، وهو النظر الى المصلحة العامة دون الخاصة.
وبعبارة أخرى: لا مانع من ممارسة الحقوق الفردية أو تطبيق الأفكار على أرض الواقع ما لم تضر بصحة جسد الأمة وكيانها، بل ما لم تضر أو تهتك حقوق الآخرين.
وهذا العامل يضمن حقوق الجميع بلا استثناء، إذ كلما تأصلت في تفكير المجتمع بدت ظواهر التفاهم والعيش السلمي، ولا يخفى أن تأصيلها - كما تقدم في النقطة الأولى - يبدأ من لبنة الأسرة وصاعدا.
وقد أكد الامام علي (عليه السلام) على حقوق الرعية مهما كانت معتقداتهم بعهده لمالك الأشتر رضوان الله تعالى عليه إذ قال: (وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ، ولَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ) 2.
بل ان الامام علي (عليه السلام) جسد هذا الفكر على الواقع لما رأى ذلك الرجل النصراني يستعطي في حكومته فقال: ما هذا؟ فيا لجمال الفكر عند علي (عليه السلام) إنه لم يسأل عن شخصه وعقيدته! بل استنكر أن يكون في حكومته رجل يستعطي مهما كانت عقيدته.
3- هجران التشنج في لغة الخطاب:
من الواضح جدا أن توحيد الناس - جميعا - على منظومة فكرية واحدة من الأمور المتعسرة ولا سبيل لها إلا ما شاء الله تعالى، ولكنّ هذا لا يعني تعسر وحدة الصف والعيش السلمي والعمل على المصالح العامة في المجتمع، بل لابد من التركيز على الخطوط العريضة التي تصب في مصلحة البلاد أجمع.
وبما أن تبني كل فرد أو مجموعة أو طائفة لفكر معين؛ فمن الطبيعي أن يطرحَ كلٌ فكرتَه التي يتبناها - نظرا للمصالح العامة كما تقدم - فالحرية الفكرية أمر متسالم عليه في البلدان الحرة، ولكنّ الذي ينبغي الالتفات اليه هو توخي الحذر من تشنج لغة الخطاب في الطرح، بنحو يبتني طرح الفكرة على لغة هجومية تحفل بإيقاظ روح التعصب في الآخر أو انتهاك حرمته.
إذاً لابد من طرح الأفكار التي يراد تبنيها أو تطبيقها بأسلوب يزخر بالحفاظ على روح الأخوة بين أفراد المجتمع.
وهذا ما أدبنا عليه القرآن الكريم، قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..)3
--------
1- نهج البلاغة: خطبة 74.
2- نهج البلاغة: العهد 53.
3- النحل: 125