إذا نظرنا إلى الأحداث التي وقعت في كربلاء في سنة 61هـ، وما سبقها من حوادث وما أعقبها من مصائب، فإننا نستخلص فوائد وعبراً نستفيد منها في حياتنا الحاضرة.
وإني كنت أتأمل في مواقف القوم الذين حاربوا الإمام الحسين عليه السلام، وأجيل النظر في مسؤولية أولئك الناس الذين عايشوا حادثة الطف، وعاصروا الأحداث التي أثرت سلبا في مجريات التاريخ الإسلامي إلى هذا اليوم، وأتساءل: لماذا حدث كل ذلك؟ وماذا ينبغي أن يحدث؟
لا شك في أن الإمام الحسين عليه السلام كان يمثل دولة الحق والعدل، ويجسد كل القيم الإنسانية والمبادئ الإلهية، وأما الجيش المناوئ له فكان يجسد الظلم والكفر والخسة والدناءة والجشع والتكالب على الدنيا على حساب القيم والمبادئ الحقة.
لقد كان أنصار الإمام الحسين عليه السلام ـ وهم أنصار الحق ـ فئة قليلة، وكان أعداؤه ـ وهم أنصار الباطل ـ ألوفا مؤلفة، فلم يكن هناك أي وجه للمقايسة بين كثرة هذا الجيش وقلة ذلك العدد، ومن الطبيعي حينئذ أن تكون الغلبة الميدانية بحسب الموازين العسكرية لجيش عمر بن سعد.
إلا أنه كان بالإمكان أن تتبدل موازين النصر، فتترجح كفة الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه ميدانياً لو وقف الناس الآخرون في ذلك الوقت إلى جانبه عليه السلام، ولو حدث هذا لترتب على هذا النصر تغيير جذري في حياة المسلمين منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا، إلا أن أكثر الناس آثروا السلامة والعافية بحسب تصورهم الخاطئ، فوقفوا موقف المتفرج المتألم من تلك الأحداث الدامية الأليمة، وكأن الأمر لا يعنيهم في شيء، وكأنه لا يجب عليهم تجاه تلك الأحداث أي شيء آخر أكثر من إبداء الألم وإظهار الأسى لما يحدث، ولذلك لم يقف هؤلاء الموقف الصحيح تجاه تلك الأحداث، ولم يقوموا بما يجب عليهم من النصرة التي يتوقف عليها مصير الإسلام والمسلمين في ذلك العصر وفيما بعده من العصور.
ومن الواضح أن واقعة الطف كانت واحدة من المصائب التي حدثت في زمان إمرة يزيد بن معاوية، التي كانت واحدة من إفرازات تخاذل الناس عن نصرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، واستماتة أتباع معاوية في نصرته، إذ لولا ذلك لما آلت أمور المسلمين إلى معاوية، ولما انتهت الخلافة إلى يزيد بن معاوية الفاسق الفاجر.
ومن تأمل كل الوقائع الماضية والحاضرة يجد أن الحق (لم) و(لا) و(لن) ينتصر إلا بقوة أعوانه، كما أن الباطل (لم) و(لا) و(لن) تكون له غلبة إلا بكثرة أتباعه، ولأجل ذلك يتحمل مسؤولية تقهقر الحق وتضعضعه إمام قوى الشر والكفر في هذا العصر وفي العصور الماضية، كل من خذل الحق، ولم يقم بنصرته بما يجب عليه، كما يتحمل مسؤولية انتشار الفساد والشر في المجتمع كل من يرى باطلا أو ضلالاً أو منكراً وهو قادر على رده وقلعه، فيتوانى عن وظيفته الشرعية.
إن أراذل الناس وسفلتهم ممن يملكون الجرأة على مخالفة أحكام الله تعالى، ومخالفة القيم الإنسانية والمبادئ الإلهية وقوانين الحكومات الإسلامية، يسعون جاهدين لنشر الفساد والرذيلة والمعصية في مجتمعنا وفي غيره من المجتمعات الإسلامية، وهؤلاء يجب التصدي لهم بحزم وقوة، ولا ينبغي التساهل في ردعهم عن باطلهم، والتواني في الوقوف في وجوههم، لمنعهم من عمل الشر ونشر الفساد في المجتمع، لأن قلع المفاسد الاجتماعية هو مسؤولية كل فرد من أفراد المجتمع، لا مسؤولية العلماء فقط، وليس هو من وظائف الدولة ومن مهام رجال الأمن والشرطة التي لا يحق لأحد التدخل فيها، فإن هذا فهم خاطئ مغلوط، منشؤه حب الدعة والراحة، والرغبة في التنصل عن كل مسؤولية ينبغي أن يتحملها جميع أبناء هذا البلد.
ولأجل تبني كثير من الناس هذا النحو من التفكير تجاه المفاسد الاجتماعية، والوقوف منها موقف اللامبالاة، أو موقف المتألم المستنكر فيما بينه وبين نفسه فقط، فإن تلك المفاسد قد أخذت حظها من التفشي والانتشار، لأنها لم تجد من يحاربها أو يحد من اتساعها وانتشارها
ولا ينقضي العجب ممن يبرر تلك المفاسد، ويعطيها الشرعية بنحو من الأنحاء، فيجعل فعل الناس لها دليلا على حليتها على الأقل، أو كاشفا عن رجحانها في بعض الأحيان، ولذلك عندما تنكر على من يفعلها تجد من يعترض عليك قائلا: كل الناس يصنعون ذلك، فهل كلهم مخطئ، وأنت المصيب وحدك؟
إذا وصل هؤلاء إلى هذه الحال، وصاروا لا يميزون بين الحلال والحرام، وبين الحسن والقبيح، وبين الضار والنافع، إلا من خلال هذه الموازين الخاطئة، فإن ذلك مؤشر خطر يدل على وجود حالة من الاغتشاش الفكري والوهن الديني، ناشئة من ترك الأخذ بأقوال العلماء، وفتاوى الفقهاء، والتخبط ذات اليمين وذات الشمال، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح ما فسد من أمور المسلمين، وأن يدركنا برحمة منه واسعة، إنه أرحم الراحمين.