يُطرح هذه الأيام السؤال التالي:
(هل جاء الإمام إلى الكوفة بناءً على رسائل اهل العراق لتولي ولاية الكوفة ام هو في الاصل كان خروجه ضد الدولة، لان اغلب المشككين يستشكلون ان الامام قد خُدِع؟).
قبل كل شيء يجدر التنبيه على أن طلب إقامة حكومة عادلة هو في نفسه هدف نبيل، وثورة الإمام الحسين عليه السلام ما قامت إلا لأجل مواجهة الحكومة الجائرة التي أفسدت البلاد والعباد ومحقت تعاليم الدين، ولكن هذا المقدار لا يفي بإثبات أنه عليه السلام خرج طالبا للحكم لأنَّ هذه الفكرة إنَّما تصح إذا ثبت أمران معاً أحدهما تاريخيٌ والآخر عقدي، أما التاريخي فيجب اثبات أن حركة الإمام ضد السلطة الأموية بدأت بعد وصول الرسائل، وأمّا العقدي فيجب تبني عدم علم الإمام المسبَق بشهادته، يجب اثبات كلا الأمرين معاً حتى تصح فكرة خروجه لطلب ولاية الكوفة، ويكفي في نقضها انتقاض أحد الأمرين كما هو واضح، والبحث فيهما كما يلي:
أولاً: تاريخ انطلاق ثورة الإمام
اتفق المؤرخون على أن رسائل أهل الكوفة كان اول وصولها للإمام عليه السلام في مكة المكرمة(1) أما تاريخ بدء الإمام عليه السلام حركته المناهضة للسلطة فيعود الى ما قبل ذلك بفترة ليست بقليلة إذ اتفق المؤرخون أيضا على انه عليه السلام امتنع عن البيعة ليزيد مذ كان في المدينة المنورة وإنما خرج منها بعد إعلان امتناعه عن البيعة، بل بلغت الأمور أبعد من ذلك إذ أمَرَ الإمام عليه السلام أهل بيته ومواليه في المدينة بحمل السلاح والوقوف على باب قصر الوالي عندما طَلبَ الإمامَ لأخذ البيعة منه وأمرهم باقتحام القصر ما إن يسمعوا صوته قد ارتفع(2)، وكان هذا أول تحرك عسكري للإمام دفاعا عن نفسه وقبل وصول رسائل أهل الكوفة علما أن الإمام على طول الخط وحتى في كربلاء عمل بمبدأ (لا تَبدَؤوهُم بِقِتال) .
وبهذا يكون من الوضوح بمكان انه لا يصح تعليل ثورة الإمام برسائل أهل الكوفة لأنها قد بدأت فعلاً قبل وصول الرسائل، فالإمام عليه السلام كان قد مضى فيها بغض النظر عن رأي أهل الكوفة وهل هم معارضون او موافقون له .
ويؤكد هذا ما جاء في خطبة سليمان بن صرد الخزاعي في الكوفة قبل أن يكتبوا الرسائل حيث من جملة ما قاله: " إنَّ معاوية قد هلك وإنَّ حسيناً قد تقبَّض على القوم ببيعة وقد خرج الى مكة... فاكتبوا إليه..."(3)، فهذا نص صريح بأن ما وقع كان على عكس ما صوّره صاحب الشبهة تماما فالصحيح أن أهل الكوفة قد كتبوا للامام الحسين عليه السلام بعد علمهم بثورته وخروجه على السلطة لا ان الإمام ثار بسبب رسائلهم .
ومما يؤكد هذا أيضا أنه عليه السلام في أول ثورته لم يتوجه الى الكوفة بل توجه الى مكة المكرمة وبقي فيها ثائراً معلنا عدم البيعة ما يقرب من أربعة أشهر (ظ: الارشاد: 273) ولو كانت الثورة تستند الى رسائلهم لتوجه إليهم من أول الأمر.
ومن كل ما سبق يثبت انه من الناحية التاريخية كانت ثورة الإمام عليه السلام بدأت قبل أن تصله رسائل الكوفة بل هم كتبوا إليه بعد أن علموا بثورته، وهذا كاف لنقض شبهة طلبه لولاية الكوفة أو اغتراره برسائل أهلها .
ثانيا: علم الامام المسبق بشهادته
وعلم الامام هذا يمكن إثباته عن طريق ثلاثة مسالك:
المسلك الأول: علم الأئمة بالغيب وهي من عقائدنا التي قامت عليها الأدلة الكثيرة حتى صنفوا فيها الكتب المطوَّلة، ولكن لا يخفى أن صاحب الإشكال لا يُتَوَقَع منه أن يتشرف بحمل مثل هذه العقيدة فيكون الاحتجاج بها مبنائيا وسرد أدلتها لا يحتمله المقال لذا أتجاوزه الى المسلكين الآخرين وإن كان هو في نفسه يفي بالغرض.
المسلك الثاني: إخبار النبي ص وسائر الأئمة السابقين بشهادته عليه السلام
يدل على هذا أحاديث كثيرة صحيحة متواترة في كتب السنة والشيعة جمع بعض الأعلام بعضها في مصنفاتهم وأكتفي هنا بذكر روايتين من طرق الإمامية ومثلها من طرق العامة :
فمن طرق الإمامية:
1- روى ابن قولويه باسناده عن الامام الصادق (ع) أن النبي ص أخذ الامام الحسين من أمه وبكى فسألته عن بكائه فأخبرها بأمر استشهاده وقال: " في موضع يقال له كربلاء .. يخرج عليه شرار أمتي" (كامل الزيارات:145).
2- وروى الشيخ الصدوق باسناده عن ابن عباس أن الامام علي (ع) لما نزل في نينوى عند خروجه الى صفين أخذ يبكي عند شط الفرات ويقول: " مالي ولآل أبي سفيان؟!.. صبراً يا أبا عبد الله فقد لقى أبوك مثل الذي تلقى منهم .." ثم أخبرهم الامام بحديث حدثه إياه النبي ص بأن الحسين ع يقتل في هذه الأرض . (كمال الدين: 532) وهذا خبر مشهور ذكره كثير ممن أرخوا لمعركة صفين .
وأما من طرق العامة:
1- عن أم سلمة أنها رأت في يد النبي ص تربة يقبلها فسألته عنها فقال ص: "أخبرني جبريل ان هذا يقتل بأرض العراق للحسين فقلت لجبريل أرني تربة الأرض التي يقتل بها، فهذه تربتها" قال الحاكم في المستدرك (4/ 398): "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وذكر الصفدي أنَّ هذه التربة هي نفسها التي أعطاها النبي ص لأم سلمه (الوافي بالوفيات: 12/ 2
63)
2- قال النبي ص "دخل علَيَّ البيت ملَك لم يدخل علَيَّ قبلها ، فقال لي إن ابنك هذا حسيناً مقتول ، وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها" قال الذهبي في تاريخ الإسلام (5/ 104): "إسناده صحيح" وكذلك صححه شعيب الأرنؤوط في هامش سير أعلام النبلاء (3/ 290) وأقول لا يبعد دعوى تواتر هذا الحديث لكثرة طرقه عندهم .
وغير هذه الأربعة يوجد عشرات الأحاديث في كتب الفريقين تدل على المطلوب وكثير منها صحيح فهذا المعنى متواتر عن النبي ص ومن هنا نفهم ما رُوي عن ابن عباس رحمه الله انه قال: "ما كنَّا نشك وأهل البيت متوافرون ان الحسين بن علي يقتل بالطف" (مستدرك الحاكم: 3/ 179) فبسبب كثرة إخبارات النبي ص والأئمة قبل الحسين ع بأنه يُقتل في الطف كان الجميع جازمين بذلك قبل استشهاده عليه السلام.
المسلك الثالث: التحليل الواقعي للمعطيات
إذ كان من الواضح جدا بلحاظ معطيات الواقع السياسي والاجتماعي لعام 60هـ عدم توفر الظروف الملائمة لتأسيس دولة جديدة بعد اسقاط الدولة الأموية ومن أهم تلك المعطيات حالة القنوط التي عاشها المجتمع أيام خلافة معاوية فضلا عن تفشي أخلاقية الهزيمة وتميّع الإرادة هذا بصورة عامة وأما بالنسبة للكوفة خاصة فلم يكن أحد يشك في أن هذه المدينة ذات الأغلبية غير الشيعية لا يمكن الاعتماد عليها في إقامة دولة عادلة.. ومما يزيد في الطين بلة أن الكثير من أولئك الذين كتبوا للامام الحسين عليه السلام يستنهضونه في الواقع لم يكونوا من الشيعة كشبث وحجَّار ومحمد بن الأشعث وغيرهم من أعيان الكوفة لذا خاطبهم الإمام يوم الطف بقوله (ياشيعة آل أبي سفيان..) وهذا لم يكن خافٍ على عموم الناس وقد صرح به عبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس وغيرهما عند محاولة ثني الإمام عن الخروج ولم يُجبهم الإمام بأنهم متوهمون في اتهامهم للكوفيين بل كان يؤكد لهم أنه خارج للشهادة، فهو عليه السلام غير بعيد عن أجواء الكوفة حتى يخفى عليه مثل هذه المعطيات التي أذعن لها الجميع، كيف وقد كان الى جانب والده عندما ارتقى المنبر في الكوفة وهو يقول لهم: "ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجَرَّعْتُموني نغب التهام أنفاساً" وقال لهم مرةً " لا أصدِّق قولكم ولا أطمع في نصركم.."، ثم كان الى جانب أخيه الحسن ع عندما أحرق الكوفيون فسطاطه ونهبوا رحله .. الإمام كان عالما ان كوفة الجند هي الكوفة لم تغير طباعها بعدُ، لذا لم يعترض على من طعن في الكوفيين أمامه بل أجابه انه مكلف بالثورة بغض النظر عن موقف الكوفيين .
ومن هنا نجده عليه السلام صرح أكثر من مرة وهو في المدينة وفي مكة وفي الطريق أيضا بأنه يُقدم على الشهادة وليس على الحكومة ففي مكة كان يقول: " والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العَلَقة من جوفي" (الطبري 4/ 296) وفي الطريق كان يقول: "القوم يسيرون ، والمنايا تسير إليهم" (الارشاد 283) وفي الطريق أيضا قال له أحد سكان المنطقة "و اللَّه ما تقدم إلّا على الأسنّة وحدّ السيوف" فأجابه الإمام: " إنّه لا يخفى عليَّ ما ذكرتَ" (الكامل: 4/ 43) وفي كربلاء كتب رسالته الشهيرة: "من لحق بي استشهد ومن لم يلحق بي لم يُدرك الفتح" (كامل الزيارات: 157) والأهم من كل هذا عندما بلغه خبر انقلاب اهل الكوفة واستشهاد سفراءه مسلم وعبد الله وقيس كان بإمكانه الرجوع لكنه قرر المضي وهكذا ثمة عشرات الأدلة غير هذه نقلها المؤرخون وهي صريحة في أنه عليه السلام كان يعلم مسبقا أنه إنما يُقدِمُ على الشهادة، فبالله من كان هذا حاله كيف يُقال أنه خرج لطلب السلطة؟!!
الهوامش:
* سلسلة المقالات هذه أجيب فيها على أسئلة الأصدقاء التي سجلوها في المنشور الذي اعددته لهذا الغرض سابقا . #أسئلة_الأصدقاء_محرم1442
(1) ظ: تاريخ اليعقوبي: 2/ 168، الإرشاد: 253، إعلام الورى: 229، تاريخ الطبري: 4/ 258و 261، أنساب الأشراف: 3/ 157، وغيرهم إذ لم أجدُ مخالفا في هذا .
(2) ظ: الارشاد: 253، إعلام الورى 229، تاريخ الطبري: 4/ 251 وغيرهم فهي الأخرى موضع اتفاق بينهم.
(3) : الارشاد: 253، إعلام الورى: 229، تاريخ الطبري: 4/ 261. وغيرها .