عادة ما يعيش الناس حياتهم في الزمان الحاضر و يكتفون بما هم عليه الآن، و الأفراد الذين يعيشون الزمان الماضي ليسوا قلائل أيضاً، و هذه الطائفة تنهمك على الدوام في التعامل مع النماذج الحاوية لأحداث الماضي الحلوة والمريرة بعد إنتشالها من تحت الأنقاض، و الواقع أنّهم يقضون أعمارهم في نبش قبور الماضين.
فهم لا ينفكون عن أمرين؛ إمّا ذرف الدموع على الحوادث الأليمة، و إمّا التغني ببطولات وأمجاد عظمائهم الذين دفنوا تحت التراب! نعم هناك من يفكر في المستقبل ولّا سيما المستقبل البعيد و هم قليلون، و هنا يطرح هذا السؤال: ما السبب الذي يكمن وراء التحفظ عن التعرض لحوادث المستقبل والذي يتخذ أحياناً طابع الهروب؟ ترى أيعزى ذلك إلى طبيعة المستقبل الخارجة عن دائرة الحس، والناس أبناء الحس فهم يألفون هذه الأم فقط؟ أم يعزى ذلك إلى هالة من الغموض و الإبهام التي تغطي المستقبل فتجعله يكتسي حلّة مخيفة؛ الأمر الذي يثير الهلع لدى من يقترب منه؟ أم أنّ المستقبل شئنا أم أبينا مقرون بالمشيب و العجز و الكهولة و بالتالي الموت والعدم، و هي الأمور التي يرتعش منها الفرد و يهرب منها بكل كيانه. ولكن على كل حال لامفر لنا من التعامل مع المستقبل رغم الخوف والهلع والإبتعاد و الهرب، و لا شك أنّ هذا المستقبل هو الذييختزن مصيرنا و عاقبة أمرنا، فالماضي ولّى و إندثر و الحاضر سينتهى كلمح بالبصر إلى الماضي، و عليه فلا يبقى سوى المستقبل؛ المستقبل البعيد الذي تكتنفه الأسرار و الألغاز والذي ينتظرنا فنسير نحوه دون تريث، فلم لا ندركه و نفكر فيه؟
الموت ليس بهذا الرعب
إنّ الناس و رغم كل اختلافاتهم و تنوع مشاربهم الفكرية والعقائدية سيبلغون شاءوا أم أبوا و كيفما تحركوا و إنطلقوا نقطة مشتركة تتمثل بالموت واختتام هذه الحياة. فنقطة إنطلاقة الحياة غنية كانت أم فقيرة، وفي وسط الجهل كانت أم العلم، و مقرونة بالسعادة أم الشقاء سيأتي عليها الموت بغتة فيجعل الجميع يعيشون حالة واحدة تسودهم فيها المساواة التامة المطلقة التي يعجز الكل عن الإتيان بها. و لهذا يمكن تأمل مقدار العمر و طول الحياة، بينما لايمكن مناقشة الموت، حتى لو استخرجنا ماء الحياة من الظلمات واحتينا جرعة منه، فإنّ الحياة الأبدية متعذرة محالة، لأنّ طول العمر لايعني الأبدية قط. و على هذا الأساس يتفق جميع الأفراد على الإيمان بالموت رغم الفوارق الفكرية التي تسودهم، و لعل التعبير عن الموت باليقين على لسان آيتين من الآيات القرآنية هو إشارة إلى هذه الحقيقة، فقد صرحت إحدى هاتين الآيتين بالقول: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيكَ الْيَقينُ»[1]. و صرحت الآية الأخرى على لسان الآثمين: «وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَومِ الدِّينِ* حَتَّى اتَيْنَا الْيَقِينُ»[2]. و معنى ذلك لقاء المحسنين و الآثمين في تلك اللحظة القطعية واليقينة.
الشعور الإنساني حين الموت
السؤال الذييطرح نفسه هنا: بم يشعر الإنسان حين الموت؟ لا أحد يعرف الشعور الذي يخالج الإنسان حين الموت، حيث لم يعد أحد من هناك ليشرح للآخرين شعوره في تلك اللحظة الحساسة. فهل مفارقة هذه الحياة كقلع السن اثر حالة التخدير و دون أي ألم ومعاناة، أم يعاني الإنسان حينها أقسى أنواع العذاب و الشدّة بحيث يعجز الإنسان عن وصف تلك الحالة؟ أم القضية تختلف باختلاف روحيات الأفراد و أخلاقياتهم وصفاتهم وأعمالهم؟ فهو سهل يسير على البعض كاستشمام رائحة الوردة، بينما ثقيل وصعب على البعض الآخر كحمل ثقل وزنه الجبل. و لعل هناك شعورا آخر يخالج الإنسان لحظة الموت لايسعه فكرنا و ذهننا ولايمكننا إدراكه في ظل ظروف هذه الحياة. فلو قدر لوليد خرج من رحم أمّه العودة الثانية إلى توأمه الآخر في الرحم، فهل يسعه شرح ما شاهده خارج رحم أمّه منذ الولادة حتى عودته ثانية إلى بطنها؟
أليس هذا الأمر أشبه شيئاً بفرد أخرس يروم وصف رؤياه وما شاهده في المنام لآخر مكفوف البصر؟!
عبثية الهرب من الواقع
إنّ أسوأ سبل مواجهة الحقائق المريرة يتمثل بالتهرب من إدراكها وإستيعابها أو إيداعها بوتقة النسيان. حقّاً ليس هناك خفة عقلية تفوق هذه القضية بأن ننسى شيئاً لاينسانا أبداً، أو نتوقع إعادة النظر بشأن مطلب حتمي لايمكن إجتنابه بأي شكل من الأشكال. لماذا لا نفكر بالموت و الحوادث التي تعقبه و مصير الروح بعد مفارقتها لهذه الحياة و مئات القضايا الأخرى ذات الصلة بالموت؟ و الحال وقوع الموت في المستقبل القريب بالنسبة لنا يعد من الحوادث القطعية الحتمية التي لا غبار عليها و لا نقاش فيها. إنّنا حين نتصفح التاريخ نرى الموت قد صرع أقوى الأفراد و أقدرهم من قبيل الاسكندر و جنكيز خان و نابليون و من كان على شاكلتهم، كما قضى على أعظم العلماء و المفكرين و أقوى الأدباء و الشعراء و الكتّاب، فقد ركع الجميع للموت و استسلموا له، و عليه فليس من المعقول أن ننساه أو نخشاه و نخافه عبثاً، فقد ورد عن أميرالمؤمنين علي عليه السلام أنّه قال «وَ كَيْفَ غَفْلَتُكُمْ عَمَّا لَيْسَ يُغْفِلُكُمْ وَ طَمَعُكُمْ فِيْمَنْ لَيْسَ يُمْهِلُكُمْ»[3]. فما أحرانا أن نتقدم إلى الأمام بكل شجاعة و بسالة و واقعية لنقف على الأمور المتعلقة بنهاية الحياة و نحصل على الأجوبة الشافية و الوافية المنطقية بخصوص الألغاز و الأسرار التي تكتنف الموت.
رؤيتان لمصير الإنسان
هل لحظة الموت هي لحظة وداع كل شيء؟ لحظة نهاية الحياة؟ لحظة الغربة الأبدية و الإنفصال المطلق عن هذا العالم، و تحلل و عودة المواد المؤلفة لبدن الإنسان إلى عالم الطبيعة؟ أم هي لحظة الولادة الجديدة؟ أم هي خروج ثاني من رحم الدنيا إلى عالم واسع و شامل آخر؟ أم تحطيم قضبان سجن رهيب؟ أم التحرر من قفص ضيق و صغير و إفتتاح نافذة نحو عالم روحي واسع بعيد عن الزخارف المادية لهذا العالم و مجانب للهم و الغم و الألم و المعاناة والعداوة و الكذب و الظلم و الجور و الإجحاف و ضيق النظر و الحقد والضغينة والحرب و القتال، و بالتالي كل المنغصات و الكدورات التي ينطوي عليها هذا العالم؟ بغض النظر عن مدعى صحة الرؤيتين المذكورتين و إقترابها من الحقيقة والمنطق- و بالطبع سنتحدث في الأبحاث القادمة باسهاب عن هذا الموضوع- فإنّ الرؤية الاولى تبدو مظلمة و مخيفة و أليمة و الثانية جميلة ورائعة و هادئة.
فصورة الموت على ضوء النظرة الاولى تجعل شربت الحياة- مهما كانت الحياة مرفهة- علقماً مريراً على الإنسان أو تضطره للخضوع لأي شيء والاستسلام لأي ظروف من أجل الفرار من الموت.
و القضية على العكس تماماً بالنسبة للنظرة الثانية التي يسعها جعل شربت الحياة عذباً و شربت الشهادة في سبيل الحق و الأهداف السامية أعظم عذوبة وحلاوة، و تلقن الإنسان بعدم الاستسلام لأي شيء و الانحناء لأي شرط بسبب هذه الحياة، بل عليه أن يكون حرّاً في دنياه و لايخشى الموت المشرف! والخلاصة فإنّ الموت ليس مرعباً دائماً، فقد تكون هذه الحياة أعظم منه رعباً أحياناً.
يتبع...
الهوامش:
[1] ( 1). سورة الحجر، الآية 99
[2] ( 2). سورة المدثر، الآية 46- 47
[3] ( 1). نهج البلاغة، الخطبة 188