هذه صورة مشرقة لجهاد المرأة المسلمة تصنعها فاطمةُ (عليها السلان) في ظلال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا يبخل أبوها النبي بتقليدها الأوسمة مما يجعلها القدوة التي يحتذى بها في الصبر والالتزام والعفة والقداسة، فهي تشارك النبي في صبرها وتحملها الآلام والمحن لتشد أزر الاسلام وتكافح جنباً إلى جنب مع أبيها وزوجها وأبنائها في ساحة واحدة وخندق واحد، لتدوّن على صحائف التأريخ درساً عملياً تتلقاه أجيال النساء والفتيات في هذه الأمة المسلمة، فيتعلمن حياة الإيمان ويكتشفن عمق الأثر العملي البنّاء الذي تتركه التربية الإسلامية في حياة المرأة المسلمة، فتشارك الرجل في حياته وجهاده ومهمات رسالته بعيدةً عن اللهو والعبث والضياع، مشغولة بالعطاء الاجتماعي والبناء الروحي وحمل الرسالة وصناعة الأجيال.
هكذا ربّى النبي (صلى الله عليه وآله) ابنته فاطمة (عليه السلام) لتكون مثالاً حياً للمرأة المسلمة وقدوة للفتاة المؤمنة ونموذجاً رسالياً في دنيا الناس.
وفاطمة الزهراء (عليها السلام) هي الزاهدة العابدة المتبتّلة التي قال عنها ولدها السبط الحسن (عليه السلام): "رأيت أمي فاطمة عليها السلام قامت في محرابها ليلة جمعة، فلم تزل راكعة وساجدة حتى انفجر عمودُ الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتكثير الدعاء لهم. ولا تدعو لنفسها بشيء. فقلت لها: يا أمّاه لم لا تدعين لنفسك، كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني الجار ثم الدار" ([1]).
والدعوة بالخير لا تصدر إلا عن قلب نقي محب للخير كقلب فاطمة (عليها السلام)، إنها معلّمة ومربية ومثل أعلى في عبادتها وزهدها في سلوكها وفي بيتها، وعلاقتها بأبيها وزوجها، ووقوفها بين يدي ربها، وفي عطفها على الإنسانية وحبّ الخير لها.
ينقل لنا التاريخ درساً في العفة والحجاب عن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) يوم خرجت محتجة على أبي بكر، إذ منعها فدكاً نحلتها التي نحلها إياها أبوها النبي.
فيذكر لنا التاريخ: أنها لاثت خمارها واشتملت بجلبابها وأقبلت مع لُمةٍ (جمع) من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها الأرض: أي أن ثيابها (عليها السلام) كانت طويلة تخطّ الأرض ستراً لعفافها وإتماماً لحجابها المقدس والتزاماً بأوامر الله تعالى وقيم الاسلام ومبادئ الدين الحنيف.
ثم إنها سلام الله عليها كانت تمشي وسط تلك المجموعة من النساء التي معها، لكي لا ينظر لها شخص ولا تعرف لها هيأة ولا يبصر لها رسم، بل لكي لا تعرف من بين النساء ولا يميزها الناظر إنها عظمة الدين وأخلاق سيد المرسلين وعزة الإيمان في أعظم تجلياتها.
كانت تمشي بخطى واثقة مطمئنة كخطى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حيث كانت تحاكي مشيتها مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله) بتمام الهيبة والوقار والسكينة - لا كما تفعله بعض النساء من مشية تناغم مشية النساء الغربيات يحيطها جو من الميوعة والتهتك، فينظر لها بعين الشك والريبة - (حتى دخلت على أبي بكر في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم فنيطت دونها ملاءة رعاية للستر والحجاب وصيانة للعفة والوقار.
ما أسمى هذه الدروس والعبر والمعاني السامية التي سطرتها سيدة النساء (عليها السلام) في موقف واحد جعلته مثلاً أعلى يحتذى ويقتدى به لكل امرأة مسلمة، تبحث عن العفة والحجاب والستر والاحتجاب بدلاً عن التبرج والزينة، تطبيقاً لمعالم الدين وشريعة سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله) .
عصمنا الله جميعاً من الزلل وأخذ بأيدي المؤمنين جميعاً إلى ما فيه الصلاح والإصلاح.
*مقتطف من كتاب التبرّج والسفور وانعكاسهما على الفرد والمجتمع صادر عن شعبة البحوث والدراسات في قسم الشؤون الدينية – العتبة الحسينية المقدسة
------------
([1]) كشف الغمة: ج2، ص94 الأربلي.