إن الالتفات إلى بداهة أصالة حرمة المسلم في الإسلام يوضح أن كثيراً من المآسي التي تقع في المجتمع باسم الدين لا يستند في الحقيقة إلى تعاليمه؛ إذ لا يمكن أن يُسند ما وقع من الحروب والقتال بين المسلمين إلى توجيه الدين إلى التعصّب بين فرق المسلمين، وإسقاطه لحرماتهم.
اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام
كما يؤكد ذلك علماء المسلمين عند نشوب الفتن الطائفية بين المسلمين، مستشهِدين بالنصوص الدينية.
وكيف يمكن لأحد أن يدعي –مثلاً- أن الدين هو الذي وجّه الخوارج في صدر الإسلام لقتل الإمام علي (ع) -مع موقعه وسابقته في الإسلام-، وكذا قتل كثير من المسلمين -على أساس تكفيرهم بدعوى ارتكابهم للكبائر- وبقر بطون نسائهم.. حتى احتج عليهم الإمام علي (ع) في بعض خطبه في نهج البلاغة: بكون ذلك مخالفة واضحة لسيرة النبي(ص) .
ونظير ذلك ما وقع في هذا الزمان من قومٍ؛ على أساس التوسّع في تكفير المسلمين، حتى استباحوا دماء الآمنين من المسلمين وغيرهم -من نساء وأطفال وشيوخ-، بأساليب شائنة، تنفر منها الفطرة، وينكرها الدين، وكأنهم لم يسمعوا كلام الله سبحانه حيث يقول: [مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا].
وعليه: فليس هناك من دخلٍ للدين في حدوث هذه المآسي بحالٍ؛ وإنما نشأت هذه المآسي من خليطٍ: من عدم العلم، وضعف التعقّل، وعدم تهذيب الأخلاق..
١. فمن عدم العلم: قراءة النصوص القرآنية وتفسيرها بغير وجهها؛ وما ذلك إلا لعدم امتلاك أدوات فهمها وتفقهها؛ مما أدى إلى تطبيق الآيات الواردة في شأن المشركين المحاربين للمسلمين على المسلمين.
ومن العجب أن يتنزّل مستوى الفهم والتفطّن الأدبي للنصوص القرآنية والنبوية إلى هذا المستوى في وسط قسم من المسلمين؛ حتى فهموها على وجه يسوّغ لهم هذه التصرفات الشائنة وغير المسبوقة في تاريخ الدين.
٢. ومن ضعف التعقل: الاعتقاد بأن هذه السلوكيات والأعمال يمكن أن تؤدي إلى وجود دولة مستقرة، تشمل جميع بلاد المسلمين، ليعود مجد الإسلام والمسلمين إلى ما كان عليه في العهد الأول.. مع أن من الواضح أن هذه الأمور لن تؤدي إلا إلى زيادة الفتن، وانتشار الشبهات في بلاد المسلمين، وصرف طاقاتهم وإمكاناتهم في القتال فيما بينهم.
ولقد كان تقدم الإسلام قبل أربعة عشر قرناً في الجزيرة العربية التي كانت مليئة بالخرافات والتعسّف -على صفاءٍ في نفوس أهلها- على أساس خطاب فطريٍ عقلانيٍ، يحفز في الناس روح العقل، ويوقد فيهم مشاعر الفطرة، ويستشهد لهم على حقانية النبي (ص) بأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعوهم إلى التأمل والتفكير في الكون والحياة، ويوجههم إلى التصرّف الحكيم والعمل الفاضل برفق وأناة.. فكيف يمكن الدعوة إليه في هذا العصر -مع نموّ الفكر والشعور الإنساني- بهذه الأفكار والسلوكيات المجافية للعقل والفطرة؟
وبعد، فالحكومة في الإسلام وسيلة لإشاعة العدل، والتوجيه نحو الفضيلة، وليست غاية لذاتها.. فكيف يضحي المرء بالغاية لأجل الوسيلة؛ فهل هذا إلاّ من قبيل لبسِ الإسلامِ لبسَ الفرو مقلوباً -كما ورد التنبؤ به في الحديث -؟
٣. ومن عدم تهذيب الأخلاق: الوقوع في المزاجيات المفرطة الخارجة عن الاعتدال الإنساني، وطغيان المشاعر الناشئة عن حب الرئاسة والجاه، أو الشعور بالتحقير والتهميش -مما يؤدي إلى الحقد على الآخرين والنكاية بهم-، أو ردود أفعال مبالغ فيها على ضغوط اقتصادية واجتماعية وسياسية.
ومن المعلوم أن الإنسان ما لم يتهذب فسوف يجعل أي مبدأ وعقيدة سبيلاً لإرضاء مزاجياته، ويتخذ من المبادئ غطاءً لتوجيهها -سواء كان هذا المبدأ هو الدين، أو الدولة المدنية، أو قانون حقوق الإنسان-.. ولقد شهدنا في هذا العصر سلوكيات من دول تنادي بمبادئ، مع أن سلوكها ليس السلوك الأمثل في تطبيق تلك المبادئ؛ بل بعضها لا تناسبه أصلاً؛ لما فيها من التعسف ومجانبة الإنصاف.
وعلى العموم فإن المبادئ الحقة لا تكفي في تصحيح السلوك الإنساني؛ بل تحتاج في فهمها -فضلاً عن تطبيقها- إلى حاضنة سليمة؛ فإذا لم تسلم الحاضنة -لعدم استكمال العقل، واستحكام الجهل، والخروج عن الاعتدال- فإن هذه الحاضنة سوف تشوّه تلكم المبادئ، وتحوّر نصوصها، لتوجيه تصرفاتها، ويستحيل عليها فهمها وتطبيقها على وجهها.
من كتاب منهج التثبت في شأن الدين