يقول الفقهاء: إنّ الحكم يدور مدار الموضوع ويختلف باختلافه، وبين أيدينا ثلاثة موضوعات ينبغي تمييزها عن بعض؛ حذراً من التباس الحكم: الغبار- البخار – الدخان، فمن حيث الأصل و الماهية: الغبار من التراب أو الدقيق أو النورة..الخ، والبخار من الماء، والدخان من الرماد، ومن حيث الحكم، فالغبار ـ وتحديداً الغليظ منه ـ مفطر ومبطل للصيام على مذهب " المشهور شهرة عظيمة كادت تكون إجماعاً " (الحكيم – المستمسك،ج8،ص437)، كما قد ورد في مفطريته حديثٌ صحيح، فعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِذَا تَمَضْمَضَ الصَّائِمُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَوِ اسْتَنْشَقَ مُتَعَمِّداً أَوْ شَمَّ رَائِحَةً غَلِيظَةً أَوْ كَنَسَ بَيْتاً فَدَخَلَ فِي أَنْفِهِ وَحَلْقِهِ غُبَارٌ فَعَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ مُفَطِّرٌ مِثْلُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنِّكَاحِ " (الوسائل،ج10ص69،ب22ح1).
وعلى خلاف ذلك: البخار والدخان، فلا شهرة ولا نصّ في مفطريتهما؛ من أجل هذا كان مستند القول بمفطريتهما هو إلحاقهما بالغبار أو غيره مما ثبتت مفطريته، فلنحسم الجدال الآن بشأن إلحاق البخار بالغبار ليتخصص الكلام ويتمحض الحديث بالدخان كما أردنا له، فنقول:
إنّ منشأ القول بمفطرية البخار ـ مع عدم ورود النص فيه ـ هو إلحاقه بالغبار في المفطرية، من حيث اتحادهما في مناط المفطرية وهو صدق وانطباق الأكل والشرب، صدق الأكل على الغبار، وصدق الشرب على البخار، غاية الأمر أنّ أجزاء الغبار ترابية، وأجزاء البخار مائية، ويرى المحققون أنّ هذا الضرب من الاستدلال أشبه بالقياس؛ إذ لم يحكم بمفطرية الغبار لصدق الأكل بل للتعبد بالنص الخاص، ولم يرد ذلك في البخار، من جهة أخرى: قامت سيرة المتشرعة المتصل بالمعصومين على عدم اجتناب البخار في الحمامات في شهر رمضان ( الخوئي – مستند العروة الوثقى، كتاب الصوم، ص151).
التدخين وسؤال المفطريةاتضح إذن ثبوت المفطرية للغبار، وعدم ثبوتها في البخار، فماذا عن الدخان، موضوع هذه المقالة ومحور سؤالها؟، والسؤال هنا عن مفهوم الدخان بما له من الأفراد المختلفة، أبرزها وأكثرها جدلاً هو دخان السكائر، وأفراده الأخر: دخان الأركيلة - دخان السيارات - دخان المصانع - الحطب - التنباك -الترياك...إلخ، فعنه بأفراده المختلفة يقع السؤال: هل يلحق الدخان بالغبار فيكون مفطراً (على المشهور) أو لا ؟.
اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: فرأى قسمٌ منهم مفطريته - فتوىً او احتياطاً - فيما نفاها آخرون، وأياً كانت الإجابة، فهي فتوى تتطلب دليلاً، من ثمّ بانتظارنا سؤال آخر: وما الدليل ؟ ونحن فيما يلي، نعرض وجهتي الأعلام مع مستندهما.
القول بالمفطريّة ودليلهحكمتْ طائفة من الفقهاء على الدخان ـ ودخان السكائر بالذات ـ بالمفطرية أو احتاطت فيه على الأقل، فرأتْ هذه الطائفة أن الاحتياط يقتضي أن يأخذ الدخان حكم الغبار، وقد كان حكمهم بمفطرية الدخان مرهوناً بالأدلة الثلاثة التالية، ولعلّ أقواها وأكثرها استناداً هو ثالثها؛ لذا سنتناوله بشيء من التفصيل:
1ـ سيرة المتشرعة:إنّ مفطرية التدخين مما ارتكز في نفوس المتدينين، ومغروس في أذهان المؤمنين، فقد استقرت سيرة المتشرعة بالاجتناب عنه أثناء الصيام، قال النراقي: والاحوط: الاجتناب عن شرب التتن؛ لاستمرار طريقة الناس عليه، وإطلاق الشرب عند العرب عليه. (مستند الشيعة: 10/331)
2ـ أنّه ماحٍ لهيئة الصياموهذا الدليل يتكأُ على الارتكاز المتشرعي، وخلاصته: أن التدخين والصيام أمران متنافران حسب عرف المتشرعة؛ فإنّ شرب التتن ماحٍ لصورة الصوم بحسب ارتكاز المتشرعة، بحيث يرون فاعله مفطراً غير صائم، و هذا مما لا ينبغي إنكاره... " (الآملي - مصباح الهدى في شرح العروة الوثقى: 8/35).
3ـ الاطلاق أو الالحاق بالمفطراتوإذ لا دليل لفظي ينصّ على مفطرية الدخان؛ فعمدتْ هذه الطائفة واعتمدت في الحكم بالمفطرية على الدخان على ادخاله في عنوان مفطر آخر ثابت المفطرية، وألحقتُه به، وقد اختلفت كلماتهم في الملحق به وكيفية الإلحاق: - الشرب - أو القوت -أو الغبار.
أـ فقسم من الفقهاء حكم بالمفطرية استناداً لإطلاق الشرب بوصفه ثابت المفطرية بموازاة الأكل، فرأى أنّ عنوان الشرب شاملٌ لشرب التتن، وقد لاحظنا ذلك صريحاً في ذيل عبارة النراقي آنفاً: (..إطلاق الشرب عند العرب عليه )
ب ـ وقسمٌ آخر من الأعلام استثنى الدخان من الغبار الغليظ، بيد أنّه جعله لمدمن التدخين المتلذذ به قائماً مقام القوت وأشدّ، كما نجده عند الشيخ جعفر كاشف الغطاء، فبعد أن عرض ثالث المفطرات (الغبار الغليظ) قال:
" دون ما يوصله الهواء من دون قصد، ودون الخفيف منه، ودون الدخان، إلا لمن اعتاده وتلذذ به فقام عنده مقام القوت؛ فإنه أشد من الغبار". (كاشف الغطاء- كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء، ج2/ص319).
ج ـ فيما أدخل بعضُهم الدخانَ في دليل الغبار، ووجه هذا الإدخال والالحاق هو إمّا الاطلاق ببيان أنّ المستفاد من دليل الغبار هو مفطرية كل ما يدخل في الجوف ما خلا الهواء، غباراً كان أو دخاناً، أو لأنّ منشأ مفطّرية الغبار هو اشتماله على ذرات صغيرة تدخل إلى الجوف، وحيث أنّ الدخان أيضاً مشتملٌ على ذرات صغيرة تدخل الجوف فحكم عليه بالمفطرية.
جاء في جواهر الكلام: " قد يقال بالافطار به بناء على شمول الاطلاقات للغبار باعتبار كونه أجزاء وصلت إلى الجوف بالحلق، والمفروض عدم اعتبار الاعتياد بالمفطر، ومثله يجري في الدخان الذي هو أشد من الغبار في بعض الاحوال، فالقول بكونه مفطرا خصوصا بالنسبة إلى بعض الاشخاص الذين يستعملون التنباك لايخلو من قوة، بل يجب معه القضاء والكفارة كالغبار" ( الجواهري- جواهر الكلام، 16/236)
القول بعدم مفطرية الدخان ودليلهعلى الرغم من التصور السائد من أنّ القول بعدم مفطرية التدخين هو قول شاذٌ، إلا أنّ الواقع ليس كذلك؛ فقد ذهبت طائفة كبيرة من الأعلام لذلك، بل هو الموافق لفتاوى القدماء، من ثمّ ناقشت هذه الطائفة أدلة القول بالمفطرية، كما واستدلت على منظورها بدليلين، فالكلام هنا في جهتين:
أولاً: مناقشة أدلة مفطرية الدخانبخصوص الاستدلال بالسيرة والارتكاز المتتشرعي، ناقشه القائلون بعدم المفطرية بأنّها غير معلومة الاتصال بزمن المعصومين بل قد يحرز عدم الإتصال سيما في شرب التتن، من حيث أن التدخين ـ بوصفه دخاناً خاصاً لا مطلق الدخان ـ لم يكن موجوداً في زمانهم (عليهم السلام)، وعلاوة على أن فتاوى القدماء مخالفة لتلك السيرة، فإنّ ترك المتشرعة التدخين أثناء الصيام قد يكون تنزهاً عنه لا على أنّه حكمٌ إلزامي، كما ناقش هؤلاء الفقهاء دليل الاطلاق والالحاق، بأنّ إلحاق الدخان بالغبار مجرد دعوى بعيدة و عارية عن الدليل، وقياس من حيث ورود النص في مفطرية الغبار بالخصوص دون الدخان، بل النص فيه أنه غير مفطر وهو يأتي لاحقاً.. واعتباره مصداقاً للشرب بسبب الاستعمال العربي ضعيف لأنه مسامحي مجازي وغير ذلك من المناقشات المذكورة في مدونات الفقه الاستدلالي!
ثانياً: أدلة القول بعدم المفطريةبعد أن رأى المجوّزون عدم تمامية أدلة المفطرية من جهة، وتوفر النصّ على عدم المفطرية من جهة أخرى حكموا بعدم افساد الدخان والتدخين للصوم، وهذا يعني أنّ لهم على عدم المفطرية دليلان:
الأول: الاستناد إلى قاعدة الجواز والاعتماد على أصل البراءة، وهي " عبارة عن: حكم الشارع بعدم التكليف الفعلي، أو بالإباحة والرخصة في فعلٍ أو تركٍ، شك في حكمهما الواقعي، فموضوعها العمل المشكوك حكمه واقعاً، ومحمولها الإباحة والرخصة، فإذا شك في حرمة شرب التتن، أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، ولم يوجد دليل على حرمة الاول ووجوب الثاني، حكم الشارعُ بالاباحة فيهما". (المشكيني- اصطلاحات الأصول، ص46)
الثاني: ورود النص الشرعي في الجواز، وهما روايتان:
1ـ صريحة: وهو موثقة عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الرِّضَا عليه السلام قَالَ سَأَلْتُهُ عَنِ الصَّائِمِ يَتَدَخَّنُ بِعُودٍ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَتَدْخُلُ الدُّخْنَةُ فِي حَلْقِهِ فَقَالَ: جَائِزٌ لَا بَأْسَ بِهِ، قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنِ الصَّائِمِ يَدْخُلُ الْغُبَارُ فِي حَلْقِهِ قَالَ: لَا بَأْسَ.(الوسائل:ج 10، ص940، ب 32، ح 11)، وهي صريحة في عدم مفطرية الدخان حتى لو كان عن عمد، وأمّا ذيل الرواية الظاهر في عدم مفطرية الغبار فحُمل على عدم التعمد أو غير الغليظ منه، " وظهور صدرها في العمد لمكان قوله: يتدخن. الخ الظاهر في الاختيار، لا يستدعي كون الذيل كذلك للفصل بينهما بقوله قال: وسألته..." (الخوئي- مستند العروة، كتاب الصوم،ص148).
2ـ وهكذا صحيحة محمد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام: لَا يَضُرُّ الصَّائِمَ مَا صَنَعَ إِذَا اجْتَنَبَ ثَلَاثَ خِصَالٍ: الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، وَالنِّسَاءَ، وَالِارْتِمَاسَ فِي الْمَاءِ " ( الوسائل:ج10ص32، ب1ح1)، فإنّها لم تذكر الدخان ضمن الخصال الثلاثة ـ وفي رواية أخرى أربعة ـ المضرّة بالصيام، واستناداً لذينك الدليلين: (أصالة البراءة – والخبرين)، حكموا بعدم مفطرية الدخان.
نشير ختاماً، إلى أنّ الاختلاف لا يشمل حرمة التجاهر به في شهر رمضان، فذا أمرٌ متفق عليه بين الطرفين، غاية الأمر أن التجاهر عند القائل بالمفطريّة محرّمٌ بالعنوان الأولي، بينما مع القول بعدم المفطرية فحرمة التجاهر بالعنوان الثانوي، وهي هنا: انتهاك حرمة وقدسية الشهر الكريم.