تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «موقع الأئمة الاثني عشر»
نشرت مجلة The Atlantic الأمريكية مقالاً سلطت فيه الضوء على فوائد الصيام لدى المسيحيين والمسلمين وكيف يمكن الحصول على هذه الفوائد خلال مواسم العبادة.
فيما يلي نص المقال:
يُقلِّل سيطرة أدمغتنا الزاحفة ويمنحنا السيطرة على غرائزنا.. فوائد غير تقليدية نُحصِّلها من عبادة الصيام
مع اقتراب شهر رمضان المبارك الذي يقضي فيه المسلمون ساعات طويلة من الصيام الكامل عن الطعام والشراب والمتع الشخصية، فإن أحد أهم الأمور التي يجب التذكير بها هي العوائد التي تعود على الصائم من فكرة التضحية الطوعية بكل هذه المتع. فبجانب الأجر الأخروي الذي ينتظره المؤمن من العبادة، فإن التضحية الطوعية لها آثار نفسية إيجابية قوية على الإنسان بعيدا حتى عن بُعدها الديني، ولذلك قد يمتنع حتى غير المؤمنين عن بعض المتع لبعض الوقت سعيا منهم لالتماس الفوائد التي تزرعها التضحية الطوعية على النفس. حول هذه الفوائد كتب عالم الاجتماع الأميركي آرثر سي بروكس مقالا نُشر في مجلة "ذي أتلانتيك"، نعرضه مترجما في السطور التالية.
هَلَّ موسم الصوم الكبير؛ وهو الفترة المُخصَّصة لأداء مناسك الصوم والصلاة في الديانة المسيحية. يُحيي ما يقرب من ربع الأميركيين -بما في ذلك 61% من الكاثوليك- الصوم الكبير من خلال التضحية الطوعية (يُشير هذا المصطلح في المسيحية إلى تطوُّع المسيح لمغادرة السماء والمجيء إلى الأرض)، والصوم، والصدقة، والصلاة. لدى العديد من الأديان مثل هذه التقاليد الزهدية أو التقشفية، مثل يوم الغفران في الديانة اليهودية (وهو يوم مُقدَّس عند اليهود مُخصَّص للصلاة والصيام فقط، ويُعتبر الفرصة الأخيرة لتغيير المصير الشخصي أو مصير العالم في السنة التالية)، وشهر رمضان في الإسلام، إذ يتوب المؤمنون إلى الله، ويأملون أن ينجوا في تغيير أنفسهم إلى الأفضل.
كان المُراد من الصوم الكبير أن يكون فترة حزن، لا ترتبط عموما بالفرح والاحتفال، لكن الغريب في الأمر هو حبي للصيام وتطلُّعي إلى هذه الفترة. ولست وحدي مَن يفعل ذلك، إذ يُعبِّر العديد من أصدقائي الذين يترقَّبون الصوم الكبير عن السعادة التي تتملَّكهم أكثر إزاء تلك الأيام الأربعين مقارنة بباقي العام، حتى إن بعض الملحدين يختارون ممارسة الصوم لما له من فوائد للجسم والعقل.
لا يمكن اعتبار محبي الصوم مجرد أشخاص غريبي الأطوار، إذ تدعم الكثير من العلوم الاجتماعية شعور الإنسان بالسعادة النابعة من التضحية، كما يمكن أن يقودنا الصيام في واقع الأمر إلى عدد من الإستراتيجيات الجديدة لحياة أكثر سعادة بغض النظر أَكُنَّا نحتفل بموسم ديني قائم على التضحية أم لا.
لعل الرابط الأكثر وضوحا بين التضحية والسعادة هو تحسين الذات، فوفقا لشركة الأبحاث "Decision Data" تضمَّنت التضحيات الأربع الأكثر شيوعا لعام 2019 (آخر عام أُعلِن عنه) وسائل التواصل الاجتماعي، إذ أكَّد 21% من المشاركين أنهم تخلّوا عن استخدام واحدة من شبكات التواصل، فيما وصلتْ نسبة الإقلاع عن الكحول إلى 18%، ونسبة الامتناع عن الشوكولاتة والحلويات إلى 13%، أما الصودا والقهوة فقد وصلتْ نسبتهما إلى 11%. ربما يتخلَّى بعض الأشخاص عن هذه الأشياء باعتبارها نوعا من أنواع جلد الذات من خلال معاقبة النفس بالحرمان الإلكتروني أو الغذائي بهدف التكفير عن الندم الذي يجتاحهم، لكني أعتقد بقوة أن معظم الناس يبحثون عن عذر لإجراء تغيير صعب يُدرّ عليهم نفعا، ويمنحهم سعادة على المدى الطويل. قد تُجادل بأنه لا يمكن اعتبار هذه الأنواع من التغييرات "تضحيات" على الإطلاق، ولكن فحص النيّات أقل أهمية من التأثير على السعادة في هذا التقرير.
حتى وإن لم تُخطِّط لإغلاق حسابك على فيسبوك نهائيا، فالتضحية بإغلاقه لفترة قصيرة يُعيد ضبط حواسك ضبطا فعَّالا، ويمنحك مزيدا من المتعة عن طريق توفير وقت لممارسة الأشياء التي تحبها. في إحدى الدراسات، طلب الباحثون من مجموعة من المشاركين تناول أكبر قدر ممكن من الشوكولاتة، وطلبوا من مجموعة ثانية تناول الكمية التي يريدونها، أما المجموعة الثالثة فمنعوها من تناول الشوكولاتة لفترة من الوقت. في النتائج، كانت المجموعة الثالثة التي مُنعت من تناول الشوكولاتة لمدة محددة هي المجموعة التي حصلت على أكبر قدر من السعادة عندما سُمح لهم بتناولها مرة أخرى. وكما هو واضح، فالغياب يُؤجِّج شوق القلب حتى بالنسبة للحلوى.
يظلَّ هذا التأثير قائما حتى وإن لم تنطوِ تضحية معينة على فوائد إضافية، مثل ترشيد استهلاك السكر، أو استهلاكه استهلاكا معقولا. في دراسة أخرى، طلب الباحثون من الناس التخلّي عن بعض لحظات المتعة أو السعادة، مثل الاستماع إلى الموسيقى، أو الجلوس على كرسي التدليك، وتوصَّلوا إلى أن هذه المقاطعة عزَّزت من استمتاع الناس بتلك التجارب لاحقا، لأن الصيام حال دون إصابتهم بخدر المتعة.
لكن من وجهة نظري، فإن الفائدة الأكثر إقناعا للتضحية الطوعية هي قدرتها على تعزيز التحكُّم في الذات، أو وفقا للمصطلح الذي يُفضِّله علماء الاجتماع "الكفاءة الذاتية"، الذي يُشير إلى ثقة المرء في قدرته على التحكُّم في سلوكه. غالبا ما أشرح لطلابي أن حرمان الذات يُفقِد أدمغتنا الزاحفة سلطة السيطرة على رغباتنا الشديدة (الأدمغة الزاحفة: أكثر أجزاء العقل البشري بدائیة، سُمِّي بالزاحف لأنه يتحكَّم بالمستويات الدنیا من التفكیر)، وينقل هذه السيطرة إلى القشرة المُخية حيث لدينا الفرصة لإدارتها بوعي (هذه المنطقة من الدماغ تُساهم في تخطيط السلوك المعرفي المُعقَّد، والتعبير عن الشخصية، وصنع القرار، وتعديل السلوك الاجتماعي). وقد أظهرت عقود من البحث أن الكفاءة الذاتية ترتبط بشدة بالسلامة النفسية في العديد من نواحي الحياة، ومن ثَم يُعزِّز الصيام تحكُّمنا في ذواتنا، عبر زيادة شغفنا من ناحية، وإثبات أننا لا نخضع بالكامل لنزواتنا من ناحية أخرى.
في نهاية المطاف يتضح أن استخلاص السعادة من الصيام أو التضحية الطوعية ليس شيئا غريبا، إذ يمكن أن تُمثِّل التضحية جزءا مهما من مخزون سعادتك. سواء كنت تُمارس الصوم أو لا تمارسه، فكِّر في تبنّي التضحية ودمجها في حياتك، وتأكَّد من وعيك بثلاث قواعد عامة:
التضحية بدافع الحب
في عام 2005، ألقى العلماء نظرة على التضحيات التي يُقدِّمها الناس لبعضهم بعضا في العلاقات الرومانسية، وتوصَّلوا إلى أن الدافع هو مَن يُحرِّك كل شيء؛ فحينما قدَّم الأشخاص تضحياتهم "بدوافع التقرُّب" (لتحقيق أهداف إيجابية في العلاقة)، حازوا على السعادة جرّاء هذه التضحيات، لكنهم حين قدَّموا التضحيات نفسها "بدوافع التجنُّب" (لتفادي الظروف السلبية)، كانت التعاسة هي كل ما حصلوا عليه في المقابل. بمعنى آخر، إنْ نظَّفت الأطباق لمفاجأة شريكك فسيُراودك شعور جيد يُعمِّق من حبك، أما إذا كان الدافع الذي يُحرِّكك لتنظيف الأطباق هو تجنُّب الصراخ في وجهك، فهذه أسرع وسيلة تؤدي بك إلى المرارة والاستياء.
عندما تستلزم التضحية تغيير سلوكك من أجل الآخرين، تأكَّد من أن دافعك في الحقيقة هو مصلحتهم وليس مصلحتك. تُوضِّح الأبحاث أن أولئك الذين يتبنَّون عامة سلوك الإيثار أو ينخرطون فيه بدافع مساعدة الآخرين تنتابهم سعادة أكبر من أولئك الذين تتركَّز دوافعهم على تحقيق المنفعة الشخصية.
لا تقتصر آثار هذا المبدأ على الصوم فقط، وإنما تتجلَّى في سائر شعائر الدين أيضا تجليا واضحا، فالتضحيات التي يُحرِّكها دافع الحب والتقرُّب إلى الله تُعزِّز السعادة وتُعمِّق الإيمان، أما تلك التضحيات التي يُحرِّكها الخوف أو الذنب فلن تؤدي إلى التأثير المطلوب.
ابدأ بتضحيات بسيطة
تجتاحنا جميعا الرغبة في الخضوع إلى رغباتنا إلى حدٍّ ما. حتى إنْ لم تكن تعاني من رغبة مؤججة لا يمكن السيطرة عليها جرّاء إدمان حقيقي، فمن المؤكد أنك تعاني من نزعة غريزية في حياتك تود لو بإمكانك التحكُّم بها تحكُّما أفضل، ولعل عدم قدرتك على القيام بذلك في الماضي شكَّلت مصدر إحباط ظلَّ يُؤرِّقك.
تُقوِّي التضحية الطوعية الإرادة من حيث إنها تُوفِّر دليلا على قدرتك على ضبط نفسك أكثر مما تعتقد، كما تُنبئ النجاحات الصغيرة أيضا بتوالي نجاحات أكبر في المستقبل. فمن المُرجَّح أن الأشخاص الذين يُقلِعون عن شرب الكحول أيام الصيام لديهم قدرة على الإقلاع عنه نهائيا إنْ أرادوا ذلك حقا، كما يمكن تطبيق هذا المبدأ عليك أيضا إنْ رغبت على سبيل المثال في ممارسة الرياضة مبكرا بدلا من النوم، فما عليك إلا أن تبدأ بالتضحية بوقت نومك عن طريق اقتطاع القليل منه، والاستيقاظ أبكر بعشر دقائق وممارسة القليل من التمارين إلى أن تصبح عادة. لا يهم إنْ لم تكن الدقائق العشرة كافية لاستعادة لياقتك، إذ يكمن الهدف الحقيقي في تحدي نفسك وتحقيق النجاح.
جدول متعك الخاصة
عندما تُفكِّر في نوع الشيء الذي ترغب في أخذ إجازة منه، ربما أول ما سيتبادر إلى ذهنك تلك المهام التي تؤديها بدافع الضرورة وليس المتعة، ستُفكِّر في العمل على سبيل المثال، أو في علاقة مُرهِقة، وتكتشف أن الوقت المُستقطَع من المهام غير السارَّة -التي تُثقل كاهلنا- يُعيد إحياءنا، ويُجدِّد نشاطنا، ويُسهِّل مهامنا، ويُقلِّل من الإرهاق الناتج عنها حينما نعاود أدراجنا ونستأنف العمل من جديد.
وينطبق المبدأ نفسه على متعنا الخاصة، إذ يتطلَّب الاستمتاع بها بمثالية الابتعاد عنها لبعض الوقت. أُوصي بجدولة أسابيع منتظمة تتنازل فيها بمحض إرادتك عن الملذات والمتع العادية، مثل الحلوى أو التلفاز، حتى لا تصبح روتينا. بإمكانك أيضا فرض مهام غير مُريحة لك مؤقتا؛ كالاستيقاظ في الرابعة صباحا لأخذ استراحة من متعة النوم حتى وقت متأخر، أو أخذ حمام بارد باعتباره راحة من ولعك بالمياه الساخنة، وستُثير النتائج في نفسك الدهشة.
بسبب صعوبة التضحية، ووقعها غير المُريح على النفس، تحثُّنا غريزتنا على تجنُّبها إنْ أردنا بلوغ السعادة، لكن تعريفنا للسعادة على أنها اكتناز اللذة وتجنُّب الألم يُعَدُّ مفهوما خاطئا. وكما كتبت الناشطة الاجتماعية الكاثوليكية الأميركية دوروثي داي: "التخلّي عن ممتلكاتنا، وإخضاع دوافعنا ورغباتنا لرغبات الآخرين يوميا وعلى مدار الساعة، مهام في غاية الصعوبة"، وكانت داي تُدرك تماما -مثل القديسين والحكماء عبر التاريخ- أن هذه هي النقطة بالضبط. التضحية الطوعية هي طريقتنا الوحيدة السيطرة على الغرائز الحيوانية، إذ تُعطينا دليلا لا يقبل الشك يُقِرُّ ببشريتنا الكاملة.
*ذا أتلانتيك: هي مجلة شهرية أمريكية، تأسست في عام 1857 في بوسطن، ماساشوستس.
المصدر: ميدان