للإفتاء شروط، ومن أهم شروطها الاجتهاد.
والإفتاء إن كان مبنياً على استنباط الأحكام من مصادرها المعتبرة، فهو ممدوح ومأمور به، لأنه مبنيّ على الضوابط والقواعد والأصول التي رسمها أئمة أهل البيت (ع).
وإن كان مبنياً على القياس والاستحسان وما شابهه فهو منهيّ عنه، فعن أمير المؤمنين (ع): من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس، ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس. (الكافي للكليني: 1 / 58)
ومن شروط الإفتاء العلم بالمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيد وغيرها.
عن النبي (ص): مَن عمل بالمقاييس فقد هلك وأهلك، ومن أفتى الناس وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ، والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك. (الكافي للكليني: 1 / 43)
والاجتهاد الموجود في زماننا هو نفسه الموجود في زمان أئمتنا (ع) والذي مارسه فقهاء أصحاب الأئمة (ع)، فإنّ الاجتهاد ملكة الاقتدار على رد الفروع إلى الأصول، وتطبيق الكبريات على الصغريات، وهو يتطلب علوماً عديدة، حيث كان تحصيلها في زمان الأئمة (ع) أسهل من زماننا.
والاجتهاد بهذا المعنى ليس اجتهادا في مقابل النص، بل هو اجتهاد في دائرة النص والمبني على النص، وهو ممدوح وليس بمذموم، إذ الاجتهاد المذموم هو الاجتهاد في مقابل النص، قال المعصوم وأنا أقول. وهذا هو العمل بالرأي المحرم، إبداء الرأي في مقابل النص. وأما إرجاع الصغريات الى الكبريات، ورد الفروع الى الأصول، التي أجازها المعصوم، وتركُ العمل بالقواعد التي نهى عنها المعصوم، فليس بمذموم ولا محرم، بل هو مطلوب.
وقد حثّ أئمة أهل البيت (ع) أصحابهم على الإجتهاد بهذا المعنى حيث رويَ عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول، وعليكم أن تفرعوا. (مستطرفات السرائر لابن ادريس: 575)
وعن البزنطي، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال علينا إلقاء الأصول إليكم، وعليكم التفرع. (المصدر السابق)
ولا ريب في أنّ التفريع على الأصول هو الاجتهاد، وليس الاجتهاد في عصرنا إلّا ذلك، فمثل قوله: لا ينقض اليقين بالشكّ. أصلٌ، والأحكام التي يستنبطها المجتهدون منه هي التفريعات.
وليس التفريع هو الحكم بالأشباه والنظائر كالقياس، بل هو استنباط المصاديق والمتفرّعات من الكبريات الكلّية.
وقوله: على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي. وقوله: لا ضرر ولا ضرار. وقوله: رفع عن امّتي تسعة. وأمثالها أصول، وما في كتب الفقهاء من الفروع الكثيرة المستنبطة منها تفريعات.
فهذا الأمر كان في زمن الصادق والرضا - عليهما الصلاة والسلام - مثل ما في زماننا، إلّامع تفاوت في كثرة التفريعات وقلّتها، وهو متحقّق بين المجتهدين في عصرنا أيضاً.
وورد في الروايات الكثيرة تعليم الأئمة (ع) أصحابهم وتدريبهم على كيفية استنباط الحكم من الكتاب، مثل ما رويَ عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: ألا تخبرني من أين علمت وقلت: إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين ؟
فأجابه الإمام (ع): عرفنا حين قال: ( بِرُؤُسِكُمْ ) أنّ المسح ببعض الرأس، لمكان الباء. (الكافي: 3 / 30)
تـأمل في كيفية تعليمه الاستنباط من الكتاب.
ورواية عبد الأعلى قال: قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ): عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء ؟ قال: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل ( ما جعل عليكم في الدين من حرج ) امسح عليه. (الكافي: 3 / 33)
وهل هذا إلّا الاجتهاد؟
وغيرها من الموارد الدالة على جواز الاجتهاد والإفتاء على طبق الموازين والضوابط والقواعد.
فلعلّ الإمام (ع) أحبّ أن يرى مثل أبان بن تغلب يجلس ويفتي الناس، فلأنه كان عالماً بأنّ أبان قد اجتمعت فيه شروط الإفتاء، من الاجتهاد والاستنباط والفتوى على طبق الموازين الشرعية التي رسمها أئمة أهل البيت (ع)، فإنّ أبان بن تغلب كان من كبار علماء الإسلام، وقد شهد الموالف والمخالف بأنه من أوعية العلم.