منشأ وجوب احترام القوانين!
يبرز في الفقه الشيعي، وفتاوى الفقهاء والمرجعيّة المعاصرة على الخصوص عنوان:" التقيّد بالأحكام، والقوانين"، والمقصود من الأحكام هنا هي الأحكام الشرعيّة، فيما يراد من القوانين: القوانين الحكوميّة، فإذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ التقيد يشير للإلزام، فإنّ ما يعنيه العنوان آنفاً هو: عدم جواز مخالفة القوانين الحكوميّة، وحرمة مخالفة الضوابط المرعيّة عند الدولة، والأمر سواء في الدول الإسلاميّة، أو غير الإسلاميّة.
والسؤال هنا عن مدرك هذا الإفتاء؟ وأساس هذا الإلزام؟! والكلام هنا طبعاً: عن القوانين الحكوميّة التي لا تتنافى وثوابت الشرع.
يستند هذا الحكم على مقولة: وجوب حفظ النظام، وتمثّل هذه المقولة مبدءاً فقهياً تنتج عنه جملة من الأحكام، وغرضاً شرعياً تبتني عليه وتترشح منه العديد من الفتاوى، فهو ليس مجرّد حكم شرعي كسائر الأحكام الشرعيّة، وإنّما هو مبدأٌ عام في الفقه الإسلامي.
وقد قسّم الفقهاء الواجبات الشرعيّة إلى قسمين:
واجب نظامي، وهو: كلّ ما كان وجوبه لأجل حفظ نظام العباد، كجميع صنوف الصناعات التي يتوقف نظام الناس عليها.
واجب غير نظامي، وهو ما كان وجوبه لأجل غرض عائد إلى الأشخاص غير جهة حفظ النظام، ويشمل هذا: العبادات (ما يجب فيه قصد القربة) و التوصليّات. (انظر مثلاً: تقرير بحث النائيني للآملي،ج1،ص32).
ومن خلال متابعة كلمات الفقهاء واستدلالاتهم، نجدهم يبنون كثيراً على مقولة: (وجوب حفظ النظام، أو على الأقل: حرمة مخالفته)، حتى إذا انتهى طريق الاستدلال إليها؛ كفّوا عن الحديث عنها، وأقفوا الكلام عليها، وكأنّها من القضايا البديهية، وهي كذلك عندهم؛ إذ يستدلون بها، ولا يستدلون عليها، فالمقولة من واضحات الفقه، وبديهياته، لكن مع ذلك: قد أرشد إليها النقل، ودل عليها العقل.
أمّا النقل فكثير جدّاً، فخذ مثلاً مما جاء صريحاً أو شبه صريح في هذا الإطار، ما ورد من وصيّة لأمير المؤمنين لولديه (عليهم السلام): أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله، ونظم أمركم.. (نهج البلاغة،47، ت: صبحي الصالح). وقد جعله في مصاف تقوى الله وتالي تلوه.
أمّا التنبيه أو البرهان العقلي عليها فيمكن إيجازه في مقدمتين:
أولاً- تقرّر في علوم المعقول (كلاماً، وفلسفة، وأصولاً) أنّ العقل يحكم و على نحو مستقل بحسن بعض الأفعال، وقبح بعضها، وأنّ له القابلية على تقييم الأفعال في الجملة، وله اللياقة على اكتشاف شيءٍ من القيم، ومن أوضح الموارد التي يستغني العقل فيها عن غيره في معرفة حسنها أو قبحها بالبداهة هي: إدراكه لحسن العدل وقبح الظلم.
ثانياً- ومن الواضح: أنّ الغاية الداعية للعقلاء الى البناء على مدح فاعل بعض الأفعال وذم فاعل بعضها الآخر، كون العدل مثلاً بعنوانه مما ينحفظ به النظام، وكون الظلم بعنوانه مما يختل به النظام، وانحفاظ النظام هي الفائدة المترقبة من العدل، واختلال النظام هي المفسدة المترتبة على الظلم. (الإصفهاني-نهاية الدراية،ج4،ص40). وهذا يعني أنّ مسألة حفظ النظام أقوى وضوحاً وأكثر ضرورة من حسن العدل وقبح الظلم، وقد ثبت أنّ ما حكم به العقل حكم به الشرع.