يرتكزُ السّؤالُ على الواقعِ الذي يشهدُ بفشلِ التّجاربِ الإسلاميّةِ في الحُكمِ الإسلاميّ منذُ السّقيفةِ ومروراً بالدّولةِ الأمويّةِ والعبّاسيّةِ ووصولاً إلى الخلافةِ العُثمانيّةِ، فقد عاشتِ الأمّةُ في ظلِّ الخلافةِ الإسلاميّةِ تسعمائةَ سنةٍ وتحتَ إدارةِ قبيلةٍ واحدةٍ وهيَ قريشُ.
وفي هذهِ الفترةِ اكتسبت الأمّةُ وعيَها الدّينيَّ وتشكّلَت فيها مفاهيمُها الإسلاميّةُ، ولم يكُن منَ المسموحِ أبداً لهذهِ الأمّةِ أن تُفكّرَ خارجَ حدودِ السّلطةِ الحاكمةِ، فكانَت البيعةُ للخليفةِ فرضاً، والسّمعُ والطّاعةُ لهُ واجباً، ومَن خرجَ على ذلكَ قُتلَ بسيفِ الإسلامِ، كما حدثَ لأهلِ المدينةِ مِن مجازرَ وإستباحةٍ للحُرماتِ، وكما هُدمتِ الكعبةُ على رؤوسِ المُسلمينَ، وكما قُتلَ الحُسينُ بنُ عليٍّ (عليهِ السّلام) في كربلاءَ، وقُتلَ الكثيرُ مِن كبارِ الصّحابةِ صبراً أمثالَ حجرٍ بنَ عديٍّ وسعيدٍ بنِ جُبير وآخرينَ، فلم ينعم المُسلمونَ طوالَ هذهِ الفترةِ الطّويلةِ بإسلامِهم دونَ أن يكونَ على رأسِهم خليفةٌ يسوسُهم وحاكمٌ يتسلّطُ عليهم، فتشبّعَت الأمّةُ بذلكَ ورُبّيَت عليهِ ودرجَت فيهِ حتّى أصبحَ الحالمونَ بحُكمِ الإسلامِ اليومَ لا يرونَ سِوى تلكَ الصّورةِ التي حُشيَت بها كتبُ التّراثِ وتفنّنَ بعضُ الخُطباءِ في نسجِ التّبريراتِ الثّقافيّةِ والفكريّةِ لها، فباتَ منَ الصّعبِ على المُسلمِ أن يُقاربَ الخلافةَ في التّاريخِ مُقاربةً سياسيّةً بعيدةً عنِ الدّينِ والعقيدةِ، برغمِ أنَّ ما حصلَ بالفعلِ هوَ عملٌ سياسيٌّ بامتياز، فلَم تكُن سقيفةُ بني ساعدةَ ولا آخرُ خليفةٍ حكمَ باسمِ الإسلامِ، يُمثّلُ فِعلاً دينيّاً لهُ علاقةٌ بجوهرِ الإسلامِ وتعاليمِه، إنَّما هيَ السّياسةُ التي مُورسَت بكلِّ أشكالِها وأدبياتِها، والسّؤالُ الطّبيعيُّ الذي يفرضُ نفسَه هو: هَل كانَ عصرُ الخلفاءِ فترةَ حُكمٍ دينيٍّ يُعبّرُ عَن روحِ الدّينِ الإسلاميّ، أم أنَّه حُكمٌ سياسيٌّ صرفٌ يُعبّرُ عنِ المصالحِ الدّنيويّةِ لفئاتٍ وأشخاصٍ في تلكَ الفترة؟
وبالرّغمِ مِن بداهةِ الإجابةِ على هذا السّؤالِ إلاّ إنَّنا نجدُ أنَّ الوعيَ الذي توارثَتهُ الأمّةُ لا يسمحُ بمُجرّدِ التّشكيكِ في مشروعيّةِ الخِلافةِ الذي بدأهُ كبارُ الصّحابةِ وسارَ عليهِ التّابعونَ، ومِن هُنا نجدُ قياداتِ العملِ الإسلاميّ ترتكزُ عليهِ في مشروعِها السّياسيّ المُعاصر.
وفي مُقابلِ هذهِ التّيّاراتِ التي تشكّلَت ضمنَ التّصوّرِ السّنّيّ للإسلامِ، كانَ هناكَ التّشيّعُ الذي يحتفظُ بقراءةٍ خاصّةٍ وفهمٍ يتجاوزُ الإسلامَ كتصوّرٍ تاريخيٍّ يُرادُ إعادةُ إنتاجُه مِن جديد، لأنّه يرتكزُ على مفهومِ الإمامةِ، وهيَ في نظرِ الشّيعةِ ضمانةٌ إلهيّةٌ لسلامةِ المسيرةِ، وكامتدادٍ حقيقيٍّ للسّلطةِ الإلهيّةِ، فالإسلامُ كدينٍ في التّصوّرِ الشّيعيّ لهُ حقُّ الولايةِ على النّاسِ، وبالتّالي لا يرتقي أحدٌ لهذه الزّعامةِ ما لم يكُن مُمثّلاً فعليّاً لهذهِ الرّسالةِ، سواءٌ كانَ في صورةِ الولايةِ الخاصّةِ التي يُحدّدُها النّصُّ أو الولاية العامّة التي يشترطُ مُحدّداتها النّصُّ نفسُه، فالمجتمعُ الإسلاميُّ في المنظور الشّيعيّ بناءٌ هرميٌّ يكونُ على رأسِه الإمامُ، والولايةُ والموالاةُ هي التي تُحقّقُ التّرابطَ والإنسجامَ الدّاخليَّ لهذا المُجتمعِ، ويكتسبُ هذا المُجتمعُ شرعيّتَه الإسلاميّةَ مِن خلالِ الإمامِ أو مَن ينوبُ عنهُ مِن مرجعيّاتٍ فقهيّةٍ، فالولاءُ في هذا المُجتمعِ ليسَ للنّظامِ السّياسيّ الذي يحكمُ، وإنَّما للإسلامِ الذي يتمثّلُ في الإمامِ أو المرجعيّاتِ، فهوَ مجتمعٌ خاصٌّ يمتازُ عَن غيره بوجودِه في هذهِ الدّائرةِ التي تجعلُ منهُ مُجتمعاً إسلاميّاً، وبهذا تتحقّقُ أوّلُ مفارقةٍ بينَ المُجتمعِ السّنّيّ الذي ينتظمُ ويتّجهُ ولاؤهُ نحوَ النّظامِ السّياسيّ الذي يحكمُ، وبينَ المُجتمعِ الشّيعيّ الذي لا يعترفُ بأيّ نظامٍ وسلطةٍ خارجَ سلطةِ الدّينِ المُتمثّلةِ في الإمام.
فإذا كانَ للسّلطةِ السّياسيّةِ الحاكمةِ وعيُها الخاصُّ بالإسلامِ الذي توارثَتهُ الأمّةُ في صورةِ الإسلامِ السّنّيّ، فإنَّ هناكَ إسلاماً آخر ظلَّ مُغيّباً ومُهمّشاً وهو إسلامُ المعارضةِ، وهوَ الإسلامُ في نسختِه الشّيعيّةِ الذي مثّلَ خطَّ الثّورةِ والمُعارضةِ لكلِّ الأنظمةِ التي حكمَت باسمِ الإسلام.
وأهمّيّةُ هذا الخطِّ في الوقتِ المُعاصر ترجعُ إلى أنَّ خطابَه السّياسيَّ لابدَّ أن يتجاوزَ النّمطَ التّقليديّ لنظامِ الحُكمِ طالما كانَ مُعارضاً لهُ تاريخيّاً، وما حقّقهُ التّشيّعُ مِن قطيعةٍ حقيقيّةٍ معَ النّظمِ السّياسيّةِ التّاريخيّةِ، مكّنَتهُ منَ القطيعةِ معَ النّظمِ السّياسيّةِ المُعاصرةِ، فأوجدَ لنفسِه إطاراً خاصّاً ضمنَ دائرةِ الإسلامِ سواءٌ كانَ حاكِماً أو محكوماً. فبالمقدارِ الذي فُتحَ فيهِ بابُ الإجتهادِ عندَ الشّيعةِ- ولم يُغلَق في أيّ مرحلةٍ مِن مراحلِه التّاريخيّةِ- ظلَّ بذاتِ المقدار مفتوحاً لاجتهاداتٍ سياسيّةٍ. ومِن هُنا يجوزُ لنا أنَّ نتصوّرَ التّشيّعَ المُعاصرَ بوصفِه صاحبَ خلفيّةٍ ثقافيّةٍ تُمكّنَه مِن إيجادِ قراءةٍ تجعلُه أكثرَ حيويّةٍ وتفاعلاً معَ الواقعِ الموضوعيّ، طالما لم يعترِف بالتّجربةِ التّاريخيّةِ كتصوّرٍ نهائيٍّ للنّظامِ الإسلاميّ، وعدمُ إعترافِ الشّيعةِ بالنّماذجِ التاريخيّةِ في الحُكمِ، يرجعُ إمّا لكونِها تُمثّلُ إنحرافاً عنِ المسارِ الرّساليّ للرّسالةِ المُتمثّلِ في إمامةِ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام)، وإمّا بوصفِها تجربةً محكومةً بظروفِها التّاريخيّةِ لا يمكنُ تكرارُها، ومِن هُنا يصعبُ علينا إيجادُ مُشتركاتٍ فكريّةٍ تُقرّبُ بينَ الإسلامِ السّياسيّ الشّيعيّ وبينَ إسلامِ الخلافة.
والمفارقةُ الكُبرى بينَ التّصوّرينِ، أنَّ التّشيّعَ لا يعترفُ بأيّ حكمٍ باسمِ الإسلامِ ما لَم يكُن على رأسِه معصومٌ سواءٌ كانَ نبيّاً أو إماماً، وذلكَ لكونِ الحُكمِ الإسلاميّ هوَ الحكمُ الذي يُمثّلُ ما أرادَهُ اللهُ، والمجتمعُ الإسلاميُّ مهمَا كانَ مُنضبِطاً لا يمكنُ أن يكونَ مُعبّراً عنِ اللهِ في كلِّ أفعالِه وأعمالِه، ومِن هُنا يجبُ التّفريقُ بينَ الحكومةِ الإسلاميّةِ التي تحكمُ باسمِ اللهِ، وبينَ الحكومةِ التي يرتضيها المُسلمونَ لأنفسِهم، فالأولى خاصّةٌ بالأنبياءِ والأوصياءِ، والثّانيةُ غيرُ مُعبّرةٍ عنِ اللهِ حتّى لو رفعَت شعارَ الإسلامِ لكونِها خاضعةً للإجتهادِ ونظرةِ القائمينَ عليها، وعليهِ يجوزُ للمُسلمينَ في أيّ بلدٍ منَ البُلدانِ أن يقيّموا حكومتَهُم بما يفهموهُ منَ الإسلامِ مِن دونِ أن يكونَ الإسلامُ كدينٍ مسؤولاً عن إخفاقاتِهم، وفي نفسِ الوقتِ لا يمكنُ نزعُ غطاءِ الإسلامِ عنهُم طالما كانوا يسعونَ في تطبيقِ أحكامِه بقدرِ جهدِهم وطاقتِهم البشريّةِ، فكما أنَّ المُسلمَ العاديّ يُسمّى مُسلِماً حتّى لو صدرَ عنهُ الخطأ فكذلكَ الحالُ في دولةِ المُسلمينَ، وعليهِ فإنَّ حكومةَ المُسلمينَ في حقيقتِها هيَ محاولةُ البعضِ لتطبيقِ قيمِ الإسلامِ ونظامِه التّشريعيّ والأخلاقيّ، وليسَ في الإسلامِ نظامُ حكمٍ خاصٌّ أوجبَه على المُسلمينَ فإذا ما اقاموهُ يتمُّ نسبتُه للهِ، وإنّما هناكَ قيمٌ ومبادئُ عامّةٌ يجبُ الحفاظُ عليها والإلتزامُ بها، أمّا ما يخصُّ نُظمَ الدّولةِ وهيكليّتَها الإداريّةَ فإنّها منَ الجوانبِ المُتغيّرةِ التي لا يحتفظُ الإسلامُ فيها بصورةٍ مُحدّدةٍ، ومِن هُنا ينفتحُ بابُ الإجتهادِ أمامَ العقلِ المُسلمِ مُستفيداً مِن كلِّ التّجاربِ الإنسانيّةِ في الحُكمِ طالما لا تقومُ على مُخالفةِ ما أمرَ اللهُ به.
وإذا إعتمَدنا هذا الوصفَ الذي تقدّمَ يمكنُنا أن نُعرّفَ الدّولةَ الإسلاميّةَ بأنّها الدّولةُ التي يكونُ فيها الحاكمُ هوَ المُمثّلَ الحقيقيَّ للهِ والمُعبّرَ عَن إرادتِه في الحُكمِ، وكما يمكنُنا تعريفُ دولةِ المُسلمينَ بكونِها الدّولةَ التي يعتمدُ فيها مجموعةٌ منَ المُسلمينَ في دولةٍ ما على النّظامِ القيميّ في الإسلامِ كمبادئ دستوريّةٍ لكلِّ تشريعاتِها وقوانينِها، بحسبِ جهدِهم وإخلاصِهم، وفي هذهِ الحالةِ لا يتحمّلُ الإسلامُ بوصفِه إرادةً ربّانيّةً أيَّ مسؤوليّةٍ جرّاءَ الإخفاقاتِ التي تصيبُها.