لو كانَ الحسينُ يعلمُ بخذلانِ أهلِ الكوفةِ ويعلمُ المستقبلَ كما تزعمونَ لما سارَ إليهم؟!
الإجابةُ على هذا السّؤالِ تكونُ منْ خلالِ شقّين:
الأوّل: هل يعلمُ الإمامُ الحسينُ (عليهِ السّلامُ) أمورَ المستقبلِ وأنّ هذا يشكّلُ عقيدةً لنا نحنُ كشيعةٍ إمامية؟!
الثّاني: على فرضِ علمهِ بالمستقبلِ لماذا ذهبَ إلى كربلاءَ وهو يعلمُ خذلانَ أنصارهِ وأنّهُ سيقتلُ هناك؟!
أمّا جوابُ الشّقّ الأوّل، فنقولُ: نعتقدُ نحنُ كشيعةٍ إماميّةٍ أنَّ أئمّتنا (عليهمُ السّلامُ) لا يعلمونَ الغيبَ ولكنّهم متى شاؤوا أنْ يعلموا شيئاً أعلمهم إيّاهُ اللهُ عزّ وجلّ، دلّتْ على ذلكَ رواياتٌ كثيرةٌ متظافرةٌ في مجاميعِنا الحديثيّةِ [انظر : الوافي - للفيضِ الكاشاني - ج 3 ص 590 ، باب: أنّهم لا يعلمونَ الغيبَ إلا أنّهم متى شاؤوا أنْ يَعلموا أعلِموا]
جاءَ في " الكافي " بسندهِ عن عمّارٍ السّاباطي: قالَ: سألتُ أبا عبدِ اللَّهِ عليهِ السّلامُ عن الإمامِ يعلمُ الغيبَ فقال لا - ولكن إذا أرادَ أنْ يعلمَ الشّيءَ أعلمهُ اللَّهُ ذلك» .[ الكافي 1: 257]
فهذا العلمُ بالغيبِ عندَ الأئمّةِ (عليهمُ السّلامُ) علمٌ يمنحهُ اللهُ عزّ وجلّ للإمام فيما يتعلّقُ بوظائفِ إمامتهِ ، ولا يقتصرُ الإماميّةُ على هذه الدّعوى من علمِ أئمّتهم ببعضِ المغيّباتِ ، بل هذهِ الدّعوى موجودةٌ عندَ أهلِ السنّةِ أيضاً ، فقد ثبتَ منْ مرويّاتِ أهل السنّةِ أنّ عمرَ بنَ الخطّابِ قد علمَ الغيبَ ونادى ساريةَ بنَ زنيمٍ الذي بعثهُ قائداً على إحدى الجيوشِ لبلادِ فارسَ، فناداهُ وهو في المدينةِ : يا ساريةُ الجبل ، يا ساريةُ الجبل ، فاستندَ ساريةُ إلى الجبلِ وتحقّقَ لهمُ النّصرُ على جيشِ الفرسِ [ انظر : البدايةُ والنّهايةُ لابنِ كثير 7: 147 ، قالَ : هذا إسنادٌ جيّدٌ حسنٌ ... ويقوّي بعضهُ بعضاً ، سلسلةُ الأحاديثِ الصّحيحةِ للألباني 3: 101].
وكذلكَ أخرجَ الألبانيّ في "أرواءِ الغليل" ج6 ص 61 حديثَ إخبارِ أبي بكرٍ بما في بطنِ زوجتهِ وأنّها أنثى، وصحّحهُ.
قالَ ابنُ تيميّةَ في "مجموعِ الفتاوى": "وأمّا المعجزاتُ التي لغيرِ الأنبياءِ منْ " بابِ الكشفِ والعلمِ " فمثلُ قولِ عمرَ في قصّةِ ساريةَ ، وإخبارِ أبي بكرٍ بأنَّ ببطنِ زوجتهِ أنثى". [ مجموعُ الفتاوى 11: 318 ].
نقولُ: فإذا ثبَتَ هذا العلمُ بالغيبِ لغيرِ الأنبياءِ، حسبَ ابنِ تيميّةَ وابنِ كثيرٍ والألبانيّ فهوَ يثبتُ لغيرهم، فحكمُ الأمثالِ فيما يجوزُ ولا يجوزُ واحدٌ منْ هذهِ الناحيةِ.
أمّا جوابُ الشقِّ الثاني، فنقولُ : العلمُ ببعضِ الأمورِ الغيبيّةِ لا يعني مخالفةَ المحتومِ، فإنّ هناكَ أموراً محتومةً لابدَّ منْ وقوعِها إذا حضرتْ أسبابهُا، وهذا لا يعني تقديرَ وقوعِها على نحوِ الجَبرِ، بلْ هيَ ممّا جرى في علمِ اللهِ سبحانهُ بأنّها ستقعُ حتماً لحضورِ أسبابِها ومسبّباتِها، والتّكليفُ في دارِ الدّنيا - كما هوَ معلومٌ - إنّما يجري وفقَ قانونِ الأسبابِ والمسبّباتِ ، فلو فرضْنا أنّ هناكَ شخصاً سيقتلُ غداً بالرّصاصِ في حادثةٍ معينةٍ، واللهُ سبحانهُ قد أعطى هذا العلمَ بالموتِ للشّخصِ نفسهِ، فهل تراهُ يقدرُ أن يدفعَ الموتَ عنْ نفسهِ إذا حضرتْ كلُّ الأسبابِ لحضورهِ في تلكَ الحادثةِ ومقتلهِ فيها؟!!
إنّ دفعَ الأسبابِ بعدَ حضورِها ليسَ مقدوراً لأحدٍ منَ البشرِ.. وقد أخبرَنا رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّم) بأنّ ولدهُ الحسينَ (عليهِ السّلامُ) سيقتلُ في أرضٍ يقالُ لها (كربلاء)، وهذا أمرٌ تظافرَ نقلهُ عنِ الجميعِ، وهو ممّا كانَ يَعلمهُ الحسينُ (عليهِ السّلامُ) أيضاً.. فلماذا لم ينهَ النبيُّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّم) ولدَهُ الحسينَ (عليهِ السّلامُ) منَ الذّهابِ إلى كربلاءَ حتّى لا يقتلَ فيها؟!!
إنّ التكليفَ الشّرعيَّ للإمامِ الحسينِ (عليهِ السّلامُ) في وقتِها كانَ هوَ الخروجُ لنصرةِ المظلومينَ بعدَ أنِ اجتمّعتْ عندَهُ آلافُ الكتبِ منْ أهلِ الكوفةِ وعشراتُ الألوفِ منَ التّواقيعِ عليها تستنجدُ بهِ للخلاصِ منَ الحكمِ الأمويِّ وطاغيتِهِ يزيدَ.
والإمامُ ( عليهِ السّلامُ ) مأمورٌ بالأخذِ بظواهرِ الأمورِ، وليسَ لهُ أنْ يتعاملَ معَ الأحداثِ بما عندهُ من علمٍ غيبيّ بخذلانِ النّاسِ وتقاعسِهم عن نصرتِهِ فيما بعدُ ، فالحجّةُ قد اكتملتْ - ظاهراً- بحضورِ النّاصرِ الأمرُ الذي يحتّمُ عليهِ الاستجابةَ لهم، وفي هذا الجانبِ يقولُ الإمامُ أميرُ المؤمنينَ ( عليهِ السّلامُ ) : "أما والذي فلقَ الحبّةَ وبرأَ النّسمةَ، لولا حضورُ الحاضرِ، وقيامُ الحجّةِ بوجودِ النّاصرِ، وما أخذَ اللهُ على العلماءِ أنْ لا يُقارّوا على كظّةِ ظالمٍ ولا سغَبِ مظلومٍ لألقيتُ حبَلها على غاربِها ولسقيتُ آخرَها بكأسِ أوّلِها". [نهجُ البلاغةِ 1: 36]
وبلحاظِ ما تقدّمَ نقولُ: إنَّ علمَ أهلِ البيتِ (عليهمُ السّلامُ) بمصرعِهم في مكانٍ ما لا يَعني أنْ يُخالفوا المحتومَ بعدَ حضورِ أسبابهِ، وهذا مطلبٌ يرتبطُ بمسألةِ القضاءِ والقدرِ، ولا بأسَ أنْ نشيرَ إليهِ هنا بشكلٍ موجزٍ فنقول: إنّ القضاءَ على نحوينِ:
(1) قضاءٌ محتومٌ، وهوَ ما أخبرَنا بهِ الرّسلُ والأنبياءُ، فهذا يحصلُ لا محالةَ؛ لأنَّ اللهَ لا يكذّبُ أنبياءهُ ورسلهُ.
(2) قضاءٌ موقوفٌ، أي غيرُ محتومٍ، وهوَ خاضعٌ لقانونِ المحوِ والإثباتِ الذي أخبرَنا بهِ سبحانهُ في قولهِ : {يَمحو اللهُ ما يشاءُ ويثبتُ وعندهُ أمُّ الكتابِ } الرّعد :39 ، فهُنا في هذا القضاءِ يَجري التّغييرُ بحسبِ مقتضياتِ عملِ الإنسانِ وأفعالهِ التي تبدّلُ الأقدارَ، كما نصّتْ على ذلكَ الأحاديثُ الشّريفةُ : بأنَّ الدُّعاءَ يردُّ القضاءَ ، والصّدقةَ تدفعُ البلاءَ ، وصلةَ الأرحامِ تزيدُ الأعمارَ ، ونحو ذلكَ [ انظر : سننُ التّرمذيّ 3: 304 ، المستدركُ للحاكم 1: 493، شُعَبُ الايمانِ للبيهقيّ 3: 214].