يعرّف الطريحي الجهالة بأنّها موت القوة العاقلة، وفيما يلي ثلاث لقطات وصور من الواقع المعاصر، تحكي بوضوح هذا الموت:
(1)
هناك مقطع منشور على اليوتيوب يظهر فيه هولنديان يقومان بتغليف الكتاب المقدس بغلاف القرآن، ويقومان بقراءة بعض الجمل والعبارات منه للناس- وهؤلاء مسيحيون طبعاً- على أنّها من القرآن بينما هي في الواقع من الكتاب المقدّس!
يطلب الشابّان إبداء الرأي في النصوص التي اختاراها، ولقد أحسنا نوعاً ما اختيارها من الكتاب المقدس، فبعضها يتحدث عن العقوبة الشديدة على الشذوذ الجنسي (اللواط) وأنّ فاعله يُقتل، وأخرى تتعلق بوضع المرأة، وهكذا.
كانت جميع الإجابات رافضة بشدّة لمضامين تلكم الجمل. ورغم تنوّع عبارات الرفض والشجب والتي صاحبها دعوة المسلمين إلى ترك هذه الثقافة التي تتصادم مع القيم الغربية السائدة في تلكم المجتمعات..!، لكن الخيط الناظم لتعبيرات الرفض تلك هو أنّها كانت تصدر عن عاطفة مجرّدة عن العقلانيّة.!، ولقد شاهد هذه اللقطة من لقطات الجهالة بعض المسلمين، فاستبشر، وهلّل وكبّر، وحمد الله وأثنى عليه على نعمة العقل. لذا علينا أن نأخذ لقطة أخرى من قوم آخرين.
(2)
قبل عشر سنين بالضبط -وللقصة شهود أحياء- جرى بيني وبين أحد المسلمين السنّة حوارٌ بشأن الموقف من معاوية بن أبي سفيان، وكان هذا السنّي قد قرّر أن موقفه الشخصي يتبع موقف أمير المؤمنين علي من معاوية.. فقلتُ له: إذن تأسَ بأمير المؤمنين وقل في قنوت الصلاة: اللهم عليك بمعاوية وأشياعه.. ! فردّ الأخ السني بما يشبه النصّ: يا رجل تقرأ من كتاب نهج البلاغة، وهو كتاب شيعي، وتطلب منّي أن ألعن معاوية؟!!.. لكن سرعان ما صُدم حين عرف أن القنوت صحيحٌ، ومرويٌّ في أقدم المصادر، إنّه المصنّف في الأحاديث والآثار (ج2،ص108) لابن أبي شيبة(ت235هـ).
دعك من حكايتي، وجرّب أن تقول لمن يتيسّر لك التواصل معه من أهل السنة: إنّ قطرة واحدة من الدموع على أهل البيت كفيلة بأنّ يدخل الله صاحبها الجنّة!..
يمكن التنبأ بكل سهولة بردة فعله، ففي أحسن الأحوال سيكتفي بالتشكيك بالمقولة، ويردّها بوصفها من خرافات الشيعة.. وأنّ أهل السنة والجماعة أولى بالحسين(رضي الله عنه) من الشيعة ..! وبعد أن ينتهي من كلامه أخبره أنّك كنت تنقل نقلاً خبراً صحيحاً عن الإمام الحسين(ع) كتاب: فضائل الصحابة( ج2ص675ح1154 ، مؤسسة الرسالة – بيروت ، الطبعة: الأولى، 1403 – 1983 ، تحقيق : د. وصي الله محمد عباس) ولفظه حرفيّاً هو: "مَنْ دَمَعَتَا عَيْنَاهُ فِينَا دَمْعَةً، أَوْ قَطَرَتْ عَيْنَاهُ فِينَا قَطْرَةً، أَثْوَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْجَنَّةَ ".!
(3)
ربما ظنّ القراء أنني سأضفي العصمة على الشيعة، أو يحسب الشيعة أنفسهم أنّهم جميعاً حالة استثنائية، وليس الأمر كذلك. وهنا أذكّر بحكاية ليست بعيدة، إنّها حكاية جملة " الناس فقراء في الدنيا لا يهم.."، التي وردت على لسان ممثل المرجعية وخطيب الجمعة في كربلاء..، فلقد تناولتها الألسنة والأقلام باستخفاف، وهاجمتها أعداد ليست قليلة من الشيعة، وتمّ تداولها على نطاق واسع بسخرية واستهزاء..!، لكنّي أكاد أجزم أنّ الهجمة ذاتها كانت ستطال الخطيب ومقولته لو أنّه استبدل ألفاظ جملته آنفاً وقال:" لا يضرّكم تضييع شيء من دنياكم بعد حفظكم قائمة دينكم"..!!، فالمضمون واحد، وما من فرق بين التعبيرين.. فما موقف المهاجمين، وما حيلتهم حين يكتشفون أنّ الهجمة كانت على كلمة من كلمات إمامهم في نهج البلاغة(ج2،ص87)؟!.
والقاسم المشترك فيما بين هذه اللقطات آنفاً أنّها تعبيرات ومظاهر للموت الإنساني الأعظم..كتب الطريحي ما لفظه: الموت يقع بحسب أنواع الحياة: فمنها ما هو بإزاء القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات..ومن أنواع الموت: زوال القوة العاقلة،وهي الجهالة..(انظر-مجمع البحرين،ص223). فالجهالة إذن، موت.. إنّها موت لا يشبه الموت الحيوي وتعطل الأعضاء، بل هي توقف العقل عن الأداء، وهو أعظم جهاز عند الإنسان.. ذلك هو الموت، وتلك هي الجهالة الذي بذل أبو عبد الله الحسين مهجته في سبيل استنقاذنا العباد منه:" وبذل مهجته فيك؛ ليستنقذَ عبادك من الجهالةِ.."، إنّه مشروع الاستنقاذ من الموت الذي لا يشبهه موت!