الغيب والعقل
يعاني الغيب، وهو العنصر المشترك بين جميع الأديان والمعتقدات، من مشكلة التمييز بينه وبين القضايا الحسية، من حيث أن الأخيرة موضع اتفاق لدى جميع الناس كون صدقها يعتمد الدليل الحسي الذي لا لبس فيه، فيما يعتمد الغيب الدليل العقلي الذي اختلف فيه الفلاسفة بالإضافة الى التعارض الواضح في كثير من مسلمات الكثير من الاديان الغيبية والعقل والمنطق.. حتى لكأن الغيب أو الدين بشكل عام هو موضوع كائن قبالة العقل.
ومشكلة الغيب متأتية ـ بشكل أساس ـ من الجهات السلطوية التي سعت على مر التاريخ في البحث عما يمكنها من تمرير أوامرها وتعليماتها للناس من دون أية معارضة أو اعتراض مهما كانت تلك التعليمات، فبرز الكاهن أو رجل الدين المنحرف بشكل عام، لينصب نفسه ترجمانا للناس يتحدث بلسان الآلهة.. مستغلا الغيب من جهتين:
الاولى: تصوير الأذى والألم في الحياة الدنيا وكأنه من ذاتياتها، وهو مشيئة الله التي على الإنسان أن يرضخ ويقبل بها، ليستحق الجنة والنعيم الأخروي الغيبي، وذلك ليزرع في الناس روح الرضوخ لما ينتج عن تسلطها وهيمنتها من أذى وجور للرعية.
الثانية: تصوير الغيب وكأنه قبالة العقل ويتم الأخذ به عن طريق الإيمان والتسليم. أي أن الغيب كائن لا يخضع لقوانين العقل والمنطق.
وفي معرض الرد والتوضيح، علينا أن نفرق أولا بين الأديان البشرية التي يصنعها الانسان لغاياته كالوثنية وغيرها، وفيها يمتاز صانعوها بالفقر والحاجة ونسبية القعل والتفكير، وبين الدين الحق الصادر من الإله الحق، الذي يتصف بالغنى والحكمة المطلقين. فيكون ما في الدين الحق من تعاليم وحقائق إنما هي لخدمة الإنسان حيث أن الله غني مطلق لا يدفعه لبث تعاليمه وإرشاداته غير لطفه المطلق بالناس، والغيب مع الدين الحق يتماشى مع العقل والمنطق، حيث أن الله لمطلقيته مطلع على الحقيقة المطلقة التي يقصر عن ادراكها الانسان، فتكون شريعته بما فيها من إخبار وأوامر إنما تستمد من واقع الحقيقة المطلقة، والإنسان النسبي إنما يتمكن في تلك الشريعة من فهم جزء يسير من ملاكاتها وعللها ويقصر عن فهم البقية، بمعنى أن البقية لا تعنى أنها خلاف العقل بل أن عقل الانسان قاصر عن ادراك ما فيها من عقلانية.. وهنا لابد من التسليم..
وهذا النوع من التسليم، إنما يمارسه الانسان في حياته اليومية بشكل عادي.. فحين يمرض ويكون بحاجة الى الطبيب للعلاج.. فإنما يكون إزاء مرحلتين.. الاولى تتعلق بعقله حيث يشرع بالبحث عن الطبيب الملائم الذي يثق بقدرته على تشخيص المرض ووصف الدواء له، عن طريق السؤال عن شهادته العلمية أو شهادة الناس له بالخبر والمهارة، فإذا ما تم له ذلك بدأت المرحلة الثانية وهي التسليم لما يقوله ذلك الطبيب، لأن الإنسان قاصر عن الإلمام بما يعلمه الطبيب في علم الطب. ولو قدر له ان يتعرف على ما يعرفه الطبيب لما اصبح ثمة تسليم وانقياد، بل امر قائم على المنطق والعقل.
إن الغيب لدى الاديان المصنوعة من قبل الانسان إنما تريد ـ كما في مثالنا ـ فرض شخص غير مؤهل لممارسة الطب على ان يتم التسليم له.