النصارى:
كان النصارى أصحاب ديانة سماوية، يؤمنون بإرسال الرسل من قبل الله سبحانه وتعالى وبتتابع أولئك الرسل وآخرهم نبي المسيحية عيسى بن مريم (عليه السلام)، وأنْ ثمة نبي موعود بشّر به السيد المسيح.
وهم يؤمنون أيضا بحتمية طاعة الله من خلال النبي الذي يرسله، وبحتمية طاعة ذلك النبي، وخلافهم مع النبي محمد (صلى الله عليه وآله) لم يكن يتجاوز شخصه الكريم وأنه ليس النبي الموعود ولا يحمل ما تشير إليه كتبهم من صفات لذلك النبي، وعلى هذا فما إن تضمحل نقطة الخلاف هذه ويبرهن على أنه من بشرّ به نبيهم يصير لزاما عليهم اتّباعه، أي أنهم حين يؤمنون بضرورة اتّباع النبي الموعود ويبرهن على أن ذاك هو النبي محمد (صلى الله عليه وآله) يصير لزاماً عليهم اتّباعه وطاعته، ولا يبقى معنى لعبادة الله عن طريق نبي هم يؤمنون في أن الله يأمرهم بالتحول عنه الى نبي آخر، وبالتالي فليس ثمة استبداد واضطهاد في فرض الإسلام عليهم.
وبالنسبة الى نقطة الخلاف وإنكارهم لصدق النبي محمد (صلى الله عليه وآله) في دعواه النبوة، فإن التاريخ يذكر لنا العديد من الشواهد على أن ما في كتبهم كان يشير وبشكل جلي إلى شخصية النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، كما جاء في قصة الراهب بحيرا "إن أبا طالب خرج في ركب من قريش إلى الشام تاجرا فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير صب به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يزعمون، فرقّ له أبو طالب فقال: والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبداً.
وكما قال فخرج به معه فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له بحيرا في صومعة له وكان ذا علم من أهل النصرانية ولم يزل في تلك الصومعة مذ قط راهب إليه يصير علمهم عن كتاب فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر.
فلما نزلوا ذلك العام ببحيرا صنع لهم طعاما كثيراً وذلك أنه رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في صومعته عليه غمامة تظله من بين القوم.
ثم أقبلوا حتى نزلوا في ظل شجرة قريباً منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة وهصرت أغصان الشجرة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى استظل تحتها.
فلما رأى ذلك بحيرا نزل من صومعته ثم أرسل إليهم فدعاهم جميعا، فلما رأى بحيرا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته، فلما فرغ القوم من الطعام وتفرقوا سأل أبا طالب عن الغلام أن يكون أبوه حيا قال: فإنه ابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به، قال: صدقت، ارجع به إلى بلدك واحذر عليه من اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبلغنه شرا فإنه كائن له شأن عظيم فأسرع به إلى بلده، فخرج به عمه سريعاً حتى أقدمه مكة".[1]
كما جاء في سيرة ابن هشام "وبلغني أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتبا عندهم، فكلما مات رئيس منهم فأفضت الرياسة إلى غيره، ختم على تلك الكتب خاتما مع الخواتم التي كانت قبله ولم يكسرها، فخرج الرئيس الذي كان على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) يمشي فعثر، فقال له ابنه: تعس الأبعد، يريد النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال له أبوه: لا تفعل، فإنه نبي، واسمه في الوضائع، يعني الكتب، فلما مات لم تكن لابنه همّ إلا أن شد فكسر الخواتم، فوجد فيها ذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) فأسلم فحسن إسلامه وحج. وهو الذي يقول:
(إليك تعدو قلقا وضينها
معترضا في بطنها جنينها
مخالفا دين النصارى دينها) [2]
- ج2ص32 الطبري
- سيرة بن هشام ص 574