شخصية تشغل حيزا واسعا في التراث الشيعي، لما سطرته من صور إن توّجت برائعة كربلاء وما كان منه (عليه السلام) يومها من بسالة وبطولة ووفاء، فلن يسع المتأمل فيها حينئذ إلا أن يردد ما جاء في كتاب الله {حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا}.
وإننا في دائرة هذه الشخصية الفذة إزاء محورين:
المحور المليودرامي: المتمثل بالقوة والشجاعة التي جسدها يوم الطف حين نازل الابطال وصال بين الحشود، كأنه جيش تجمع في رجل، حتى وصل المشرعة مخترقا صفوف الحرس الذين وقفوا لحراستها وقد تجاوزوا الاربعمائة ألف، ووفاؤه الفذ مع أخيه الحسين عليه السلام والعقيلة زينب عليها السلام، إضافة الى لوحة الاطفال والظمأ وفناءه في سبيل جلب الماء إليهم.
وغني عن الذكر أن هذا المحور طالما كان المادة التي اعتمدها اصحاب المنابر في محاضراتهم، بيانا لسماته ومآثره عليه السلام واستدرارا للعاطفة والدمعة. وهو جهد لا يملك المرء غير الثناء عليه واعتباره الوسيلة الخلاقة في حفظ تراث ال البيت عليهم السلام وتخليد ذكرهم. ولكن رغم هذا فإن مع المنبر ثمة إشكال مفاده الاقتصار على هذا المحور في التعريف بالعباس عليه السلام، فلا يغدو عليه السلام للمتلقي غير الفارس البطل والاخ الوفي والكفيل الغيور، حتى نجد الكثيرين ممن هم خارج المذهب ناهيك عن اعداءه، وهم يسارعون الى تفسير هذا التعريف والإجلال، على أنه ناتج للوعي الجمعي وما فيه من تحفز لخلق الشخصية البطولية الخارقة.
المحور الاخر: وفيه نجد جانبا انسانيا متكاملا في شخصية العباس عليه السلام وهو ما أدى الى ظهور سمات المحور الاول في شخصيته العظيمة، ولتكون تلك السمات مبنية على قاعدة صلبة من التكامل والنضج والوعي، أي أن تلك السمات هي انعكاس لبناء روحي متين ووعي عال.
ويتبيّن هذا في نقطتين:
الاولى: لقد شاء الله أن يكون الكائن الانساني ملتقى الاضداد وحلبة صراع لهما، فيكون فيه ـ دون غيره من المخلوقات ـ العقل والغريزة، الحكمة والشهوة، وبإحاطة واعية للخير والشر والخطأ والصح وإرادة حرة، ليكون تغليبه العقل والحكمة بعد ذلك تساميا حقيقيا له، ويستحق الثناء والثواب، فالملائكة وكونهم لم يودعوا غير العقل لا يستحقون ثناء او ثوابا في التزامهم جادة الصواب والفضيلة.
ولما كانت الشهوة والغريزة عناصر لها ـ في واقع الطبيعة البشرية ـ القوة والقدرة الكبيرة في التأثير على الانسان واختياره، كان تغليب العقل والحكمة أمرا ليس بالهين، ويحتاج الى رياضة روحية صعبة يجاهد فيها الانسان نفسه كي يكون قادرا على تملك زمام شهوته وغرائزه وكبح جماحها، وعليه فإن العباس عليه السلام في موقفه الخالد والاسطوري حين امتنع عن شرب الماء وكبده كالجمر من شدة الظمأ يكون نموذجا أعلى في مجاهدة النفس والوصول بها الى قدرة كاملة ليس في مجال العطش بل عموم تغليب العقل على الشهوة، وعلى الناس أن لا تتعامل مع موقف العباس عليه السلام في رفض الماء على أنه مشهد مؤثر يدل على عظمة أخ الحسين عليه السلام، بل مدرسة عظيمة في الجهاد الاكبر يتعلم فيها ذو المنصب كيف يعف عن الخوض في المال العام بالباطل ويتعلم العامل والموظف كيف لا يتكاسلان في إداء العمل، والمثقف والفنان وكل شرائح الوجود الانساني كيف لا ينكصون الى الذات ويؤثِرون على أنفسهم لخلق المجتمع البشري المتكامل.
النقطة الثانية: الشرائع السماوية طرق لاحبة أرادها الله (رحمة منه ولطفا) لإيصال الانسان الى حالة الكمال في مختلف شؤونه وجوانبه، وجعل المعصومين عليهم السلام للناس نماذج متكاملة في تجسيد مفردات الشرائع، فعلى الناس حينئذ أن يسعوا جاهدين للامتثال والاقتداء والتسليم لهؤلاء المعصومين عليهم السلام كي يبلغوا الكمال والسعادة التي تريدها لهم الشريعة السماوية.
وفي هذا الصدد يطالعنا العباس عليه السلام في علاقته بأخيه الامام المعصوم الحسين عليه السلام بكل ما جسده فيها من إكبار وإجلال له ومن طاعة وتسليم مطلق وتفان يبلغ حد الفناء والاستشهاد.. يطالعنا في هذه العلاقة بصورة متكاملة عن الشكل الصحيح والمستوى المطلوب لعلاقة الانسان بالمعصوم، فهذه العلاقة لم تكن علاقة أخ بأخيه تقوم على احترام وتقدير بالغين، بل علاقة قائمة على وعي عال وفهم متكامل لدور الانسان تجاه المعصوم عليه السلام.
وعليه فالعباس عليه السلام قد أحرز مقامه المتسامي بما مثله من تجسيد للإنسان الكامل الذي خلقت كماله الحالة النموذجية لاتباع المعصوم عليه السلام.