وجع واحد تقاسمه جميع الأنبياء والدعاة إلى الله، كان لهم بمثابة اللعنة التي أجهضت كثيراً من مشاريعهم الإنسانية والحضارية لإنقاذ مجتمعاتهم، ذاك هو وجع \الخذلان\ الذي يتشعب منه \قلة الناصر\ و \نقض العهود\.
مع تقدم العصور وتعدد وسائل الشر والخداع، وكثرة مغريات الحياة، يحدث خلل ما يشوّه فطرة الإنسان، ليجعل من قيم الفضيلة في القاع، فتعتلي الرذيلة وأدواتها قمة هرم الحياة، وهنا يزداد وجع الصالحين والدعاة إلى الله، حيث الشعور بالغربة بعد أن فقد أهل الدنيا بوصلة تحديد اتجاه الحق من اتجاه الباطل.
هناك، على صفحات التاريخ العتيقة، يوثّق الصالحون هزائمهم المتكررة، وهم يعيشون تجارب الـ \خذلان\ الذي انتهى بهم إلى قلة الناصر واجبرهم على \القعود\.
تروي لنا هذه الصفحات، ثمة حوادث ومواقف لا مسؤولة تبنتها المجتمعات المحيطة بالأنبياء والأئمة عليهم السلام، مع مقارنة تعكس حجم إخلاص ثلة طيبة من الأصحاب، اقترنت اسماؤهم بالإمام الحسين عليه السلام، وإنها لمفارقة عجيبة أن يجتمع نسيج واحد من ألوان متعددة بإرادة كانت فوق الانتماء، جمعت النصراني والعثماني والهاشمي في هدف واحد، وهو الدفاع عن بقية رسول الله في أرضه آنذاك، فيما يشير القرآن الكريم إلى أن غالبية الرسل والأنبياء كانوا من أبناء جلدة أقوامهم يعرفون جذورهم، إلا أنهم لم يلقوا منهم إلا الخذلان.
يا موسى.. اذهب أنت وربك فقاتلا!
البداية، مع بني إسرائيل، حيث عرفوا مع نبيهم موسى عليه السلام بواحدة من حوادث الخذلان التي كانت سبباً لنزول العذاب الذي طوقهم، وذلك عندما دعاهم إلى تحرير أحدى مدنهم التي غزاها \قومٌ عمالقة\ وصفهم القرآن الكريم بـ \قومٍ جبارين\، ومع أن موسى حاول مراتٍ عدة تشجيعهم وتبشيرهم بنصر حتمي في حال دخلوا مدينتهم فاتحين لا مدبرين؛ إلا أن الخوف والجبن كانا سيدا الموقف، فاطلقوا كلمتهم الشهيرة: \اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون\، حتى انها أصبحت فيما بعد شعاراً للجماعات المتخاذلة والمتنصلة عن مسؤولياتها!.
ومن هنا، عمد قوم موسى إلى جملة من التبريرات بقولهم: \إنا نخاف أن تسبى عيالنا وأطفالنا بعدنا\ وهو ما لم يخفه أصحاب الحسين رضوان الله تعالى عنهم أجمعين، بل راحوا يتسابقون في تقديم أنفسهم وعيالهم فداءً له.
ومع بني إسرائيل أيضا، ويتجدد الموقف اللامسؤول مرة أخرى في غياب موسى عليه السلام، إذ اتبعوا سريعاً \السامري\ في قصة معروفة، تروي قيادة الأخير لحركة مناهضة للتوحيد من خلال دعوتهم لعبادة العجل، ليُفتتن ويحيط الشرك ببني إسرائيل في أسوأ صورة.
معاجز خارقة لم تُقنع قوم عيسى (ع)!
أما مع المسيح عليه السلام، كانت هناك صورة اخرى من صور الخذلان، تجلت في عدم إيمان قومه بنبوته رغم المعاجز الخارقة الكثيرة التي كان يتسلح بها، والتي طالما استخدمها لإثبات صدق صلته بالسماء، ومنها إحياء الموتى ومعالجة الأمراض المستعصية على الطب المتقدم آنذاك، فضلاً عن علمه بالتوراة ومجيئه بالإنجيل ككتاب سماوي جديد، إلا أن عدد الذين آمنوا به (12) شخصاً فقط، وهم الحواريون الذين أعلنوا إيمانهم المطلق بعد أن قال لقومه يطلب النصرة والإعانة: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّـهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّـهِ آمَنَّا بِاللَّـهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (52 آل عمران).
فأي معجزة خارقة هذه التي تقف دون إيمان القوم؟ ويصدق ويؤمن آخرين بقضية إمامهم دون أدنى درجة من الشك أو الريب أمام بارقة السيوف!.
خاتم الأنبياء: ما أوذي نبيٌ مثلما أوذيت
أما الأمة التي تحدث عنها القرآن الكريم قائلاُ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ} (110 آل عمران)، فهي الأخرى شاطرت من سبقها من الأقوام في مواقف مشابهة ولا تقل خطورة عما يحدث مع موسى وعيسى وإبراهيم عليهم السلام، وهذا ما ظهر واضحاً في العديد من الحوادث، ومنها ما جرى في معركة \الخندق\ حيث أصاب المسلمين حالة من الخوف والهلع أمام \عمر بن عبد ود\ عندما أخذ يجول بفرسه أمام جيش المسلمين داعياً إياهم إلى المبارزة دون ان يتلقى الرجل أدنى استجابة منهم!.
ولم يجرؤ على مبارزته، وقتها، إلا علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي طلب الإذن من النبي صلى الله عليه وآله، مراتٍ عدة لما رأى منهم شدة الرعب، ولعل عدم إعطاء النبي صلى الله عليه وآله الإذن لعلي بالمبارزة كان يستهدف بيان التخاذل الشديد في معركة تاريخية فاصلة آنذاك.
ويمضي النبي صلى الله عليه وآله مبلغاً لرسالته وسط تضييق وتنكيل قومه المتواصل، فمن رميه بالحجارة، إلى نثر التراب على رأسه الشريف وهو ساجد يصلي ولجّهم في أذيته حتى قال: \ما أوذي نبي مثلما ما أوذيت\ وقال أيضاً بعد أن توفى عمه أبو طالب واستضعفه المشركون: \اللهم إني أشكو إليك من ضعف قوتي وقلة حيلتي وناصري...\.
علي (ع) يشكو خذلان أهل الكوفة
بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تبدأ مرحلة شديدة الخطورة، كشفت زيف وكذب الكثير من المتلونين الذين أظهروا ارتدادهم بعد وفاته، فنُصب العداء لعلي بن أبي طالب وحُرب بقوة على خلافة النبي، واستمرت هذه الحرب حتى بعد أن أصبح رابع خلفاء الدولة الراشدة، حيث اصطف القوم مع معاوية بن أبي سفيان، ونشوب حرب \صفين\ حيث قال علي ابن ابي طالب عليه السلام على إثرها مخاطباً اهل الكوفة: \قاتلكم الله، لقد ملأتم قلبي قيحاً وشحنتم صدري غيظاً، وجرعتموني نغب التهمام أنفاساً، وأفسدتم على رأيي بالعصيان والخذلان..\.
وللإمام الحسن (ع) نصيب أيضاً!
ويتكرر المشهد ذاته مع سبط رسول الله الإمام الحسن عليه السلام، حيث أدى فقد الأنصار والخذلان إلى التنازل عن حق خلافة المسلمين لمعاوية بن أبي سفيان، وتعرضه للكثير من محاولات الاغتيال التي كان يدبرها معاوية بمكرٍ ودهاءٍ شديدين.
وتصل مرحلة الانحطاط بالمجتمع المحيط بالإمام عليه السلام إلى اتهامه شخصياً بـ \خذلان\ الشيعة وإذلالهم، حتى ينقل أن احدهم كان يسلم عليه قائلاً: \السلام على مذل المؤمنين\! .
ويخاطبه أحدهم معترضاً على ذلك ويقول: \..... أذللت رقابنا، وجعلتنا معشر الشيعة عبيدا بتسليمك الأمر لهذا الطاغية ـ أي معاوية ـ ... \.
وكان الإمام الحسين يجيب حول هذا الموضوع قائلا: \والله ما سلمت الأمر إليه إلا أني لم أجد أنصارا، ولو وجدت أنصارا لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه \.
ثم يبين الإمام الحسن عليه السلام تخاذل أهل الكوفة بقوله: \ولكني عرفت أهل الكوفة وبلوتهم، ولا يصلح لي منهم ما كان فاسدا، إنهم لا وفاء لهم ولا ذمة في قول ولا فعل، إنهم لمختلفون ويقولون لنا: إن قلوبهم معنا، وإن سيوفهم لمشهورة علينا \.
وحقاً، إنه عليه السلام لو فكر حينها بمحاربة معاوية بن أبي سفيان لقتله قومه واهدوا رأسه لمعاوية!
أوفى الأصحاب
إزاء ما تقدم من حوادث، تنبري ثلة من الرجال النبلاء الصادقين، قدموا أرواحهم وعيالهم يوم عاشوراء دون الحسين عليه السلام، ليتجلى الوفاء بالعهد مع الحسين وصحبه في أبهى صوره، عندما راح يتسابق الواحد منهم تلو الآخر للشهادة بين يديه.
لقد انفرد الحسين عليه السلام بهذه النخبة من الأصحاب حيث ويؤكد هذه الحقيقة بقوله: \فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي\.