«إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا».
حديثنا انطلاقاً من الآية المباركة في عدة محاور:
المحور الأول: في حسن الأمانة، عندما نتأمل في خصلة الأمانة فهناك عدة قراءات لهذه الخصلة والصفة: القراءة الفقهية، والقراءة العقلائية، والقراءة القرآنية.
القراءة الفقهية للأمانة: عندما ننظر للأمانة بالمنظور الفقهي فالفقه الإسلامي يقرر أن الأمين لا يضمن، من علائم حسن الأمانة أن الأمين لا يضمن ما لم يكن مفرطاً سواء كانت الأمانة أمانةً مالكية، أو كانت الأمانة أمانة شرعية، فإن الأمين لا يضمن، مثلاً: إذا إئتمنني إنسان على جهاز أو أثاث فتلف هذا الجهاز لا بتفريط مني فأنا لا أضمن، لأنني أمين، والأمين لا يضمن، الأمين من كانت يده على العين يداً مؤتمنة من قبَل مالكها، فإذا تلفت من دون تفريط منه ومن دون تقصير منه في حفظها فإنه لا يضمن، لو أنك إئتمنتي على أموال ولكن سُرِقت مني الأموال من دون تفريط مني ولا تقصير سرِقتْ مني قهراً، فأنا لا أضمن، الأمين لا يضمن، لأن الأمين محسن، والله عز وجل يقول: «مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ». لا سبيل على المحسن، يعني المحسن لا يُضَمَّن، ولا يؤخذ: «مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ».
أو كانت الأمانة أمانة شرعية، مثلاً: أحياناً يأتمنك الشرع الشريف على شيء وإن لم يأتمنك شخص من الأشخاص، ولي اليتيم، مثلاً: إذا مات والد الطفل وهو بعدُ لم يبلغ فجعلَ الشرعُ عمّه أو خاله أو أمه ولياً عليه، فالولي أمين على أموال الأيتام، ولكنه ليس أميناً من قبل المالك بل من قبل الشرع، فالشرع الذي جعله وليّاً هو الذي جعله أميناً، فلو أن بعض أموال الأيتام تلفت، أنا ولي على اليتيم وتلفت بعض أمواله لا بتقصير مني ولا بتفريط مني ولكن سرِقَت قهراً، أو تلفت بعوامل طبيعية قهرية، فأنا لا أضمن لأني أمين والأمين لا يضمن سواء كان مؤتمناً أمانة شرعية او مؤتمن أمانة مالكية، من معالم حسن الأمانة أن الأمين لا يضمن، هذه هي القراءة الفقهية للأمانة.
القراءة العقلائية للأمانة: الأمانة من أجلى مصاديق العدل، المجتمع العقلائي، الفطرة العقلائية تقرر أن العدل حسن جميل، لا يمكن للعدل أن يكون قبيحاً، العدل دائماً جميل، ومن أجلى مصاديق العدالة حفظ الأمانة، الأمانة عدالة، عندما أؤتمن على أمانة فأقوم بحفظها فإن حفظ الأمانة عدالة، لأن العدالة إعطاء كل ذي حق حقه، وحفظ الأمانة لمن إئتمنني عليها من باب إعطاء ذي الحق حقه، فالأمانة عدالة، والعدالة جميلة، فالأمانة صفة حسنة جميلة تقررها الفطرة العقلائية، هذا بحسب القراءة العقلائية.
القراءة القرآنية للأمانة: كيف ينظر القرآن إلى الأمانة؟ الأمانة التي يكرر القرآن ذكرها والتأكيد عليها كما في قوله عز وجل: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ» هنا في الآية التي قرأناها نستكشف منظوراً قرآنياً بديعاً جداً: «إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ». ما معنى هذه الكلمة «وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ»؟ معنى هذه الكلمة أن الإنسانية متقوّمة بالأمانة، فمن ليس أميناً فليس إنساناً، التعبير القرآني تعبير بديع ودقيق، يضفي المنظور القرآني قراءة أخرى للأمانة غير القراءة الفقهية وغير القراءة العقلائية، لا مجرد أن الأمين لا يضمن، لا مجرد أن الأمانة عدالة، فهناك قراءة أعلى من ذلك وهي: أن الإنسانية متقومة بالأمانة، إنسانية الإنسان متقومة بالأمانة، إذا أردت أن تعرف أن هذا المخلوق إنسان بمعنى أنه يتحمل الإنسانية على واقعها وعلى جوهرها فاختبره في الأمانة «إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا». أصلاً الأمانة لا تليق بالجماد، الأمانة لا تليق بغير العاقل، الأمانة من مقومات الإنسان «وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ». فمن إنسانية الإنسان أن يكون أميناً، فالخائن خارج عن معالم الإنسانية وملامحها، لأن الإنسانية متقومة بحفظ الأمانة. هذا هو المحور الأول من حديثنا.
المحور الثاني: التفسير المصداقي للآية، عندما ترد علينا آية قرآنية ونحن نحدد تفسيرها، فتارة يكون التفسير مفهومياً، وتارة يكون مصداقياً.
التفسير المفهومي هو ما إذا كان العنوان الوارد في الآية علماً من الأعلام لا ينطبق إلا على فرد واحد، هنا يكون تفسيره تفسيراً مفهومياً، مثلاً: عندما يقول الله عز وجل: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ». «أهل البيت» علم لا صفة، علم على شيء معين، من هم أهل البيت؟ لأن هذا العنوان الذي ورد في اللفظ القرآني ليس صفة حتى نقول: من حمل هذه الصفة فهو مقصود بالآية، هذا علم، والعلم ينطبق على فرد معين، أو جماعة معينة، فمن هم أهل البيت؟
إذن عندما تأتي الرواية كما في صحيح البخاري عن عائشة: خرج عليّ رسول الله وعليه مرط مرجل فقال أين فاطمة؟ أين علي؟ أين حسن؟ أين حسين؟ فلما اجتمعوا عنده اشتملهم بالكساء، وقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا«. هذا يعد تفسيراً مفهموياً، يعني مفهوم أهل البيت هو هؤلاء لا غيرهم.
وتارة يعدّ تفسيراً مصداقياً، كيف؟ إذا كان العنوان الوارد في الآية وصفاً وليس علماً، الوصف ينطبق على كل من اتصف به، ما دام العنوان الوارد في الآية وصفاً إذن هذا الوصف ينطبق على كل من اتصف به، لكن بما أن الوصف له درجات وله مراتب لذلك قد تأتينا الآيات تعين لنا مصداقاً لأعلى المراتب وأعلى الدرجات، أضرب لك مثالاً: عندما نأتي للآية المباركة وهي قوله عز وجل: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ« هذا وصف، هناك الولاية لمن اتصف بهذا الوصف: أقام الصلاة وآتى الزكاة وهو راكع، هذا الوصف في زمن النبي محمد لم ينطبق إلا على أمير المؤمنين علي ، إذن هو مصداق الآية، الوصف كمفهوم واضح لا يختص بأمير المؤمنين كمفهوم، ولكن كمصداق يتعين في أمير المؤمنين علي لأنه لم ينطبق على غيره، ولذلك وردت عندنا رواية عن الإمام الرضا عليه أفضل الصلاة والسلام، سئل عن هذه الآية فقال: كلنا أقام الصلاة وآتى الزكاة وهو راكع، يعني هذا الوصف انطبق على الإئمة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كل بحسب زمانه وبحسب ظرفه.
آية أخرى: مثلاً: قوله عز وجل: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً». عندما نأخذ الوصف «المطمئنة» الإطمئنان وصف وليس علماً ينطبق على كل من اتصف به، كل من جاءه الموت وهو مطمئن للقاء الله انطبق عليه هذا الوصف لكن الاطمئنان له درجات ومراتب، وأعلى درجات الاطمنان وأعلى مراتبه من الذي حازها؟ أية نفس حازت أعلى درجات الاطمئنان وقت الموت الذي هو وقت الرهبة ووقت الخوف، وقت الموت... طبعاً الإنسان يشعر بموته ولو قبل ثواني من موته، وقت الموت وقت الرهبة، وقت الخوف، وقت الجزع لأنه وقت انتقال الروح من عالم معروف إلى عالم غير معروف، من عالم معهود إلى عالم غير معهود فيصيب النفس نوع من الهلع والجزع لذلك، لذلك أقوى نفس حملت أعلى درجة من درجات الاطمئنان وقت الموت، فكان وقت الموت كأنه حياتها، أية نفس؟ جاءت الرواية عن الإمام الصادق: ”النفس المطمئنة جدي الحسين بن علي“. هذا تفسير مصداقي، فمفهوم الاطمئنان واضح ينطبق على كل من اتصف به، لكن الرواية تريد أن تقول لنا: أعلى درجات الاطمئنان تحلّت بها هذه النفس القدسية نفس الحسين بن علي سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه وعلى أبناءه الطيبين الطاهرين.
من هنا عندما نأتي إلى الآية المباركة: «إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ». الأمانة مفهومها واضح، الأمانة هي ما استودع فيقال: له أمانة، لكن ما هو مصداق الأمانة؟ نأتي للتفسير المصداقي، التفسير المفهومي لعنوان الأمانة واضح، الأمانة هي ما استودع، لكن ما هو مصداق الأمانة المنظور إليه في الآية المباركة؟
هنا عدة تفسيرات: تفسير يقول: مصداق الأمانة هو الدين، الدين الإسلامي أمانة، دين السماء أمانة حُمِّلها الإنسان فانقسم الإنسان إلى قسمين: أمين وخائن، والخائن عبّر عنه القرآن الكريم «إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا».
التفسير الآخر يقول: الأمانة ولاية علي بن أبي طالب كما هو وارد في بعض الروايات، هذا أيضاً تفسير مصداقي، بيان أعلى مصاديق ودرجات الأمانة حفظ الولاية، ولاية علي بن أبي طالب لأن حفظ ولاية علي بن أبي طالب تحتاج إلى الثبات والصبر أمام الاضطهاد والظلم وأمام الظروف الخانقة، أن يثبت الإنسان على القول بولاية علي بن أبي طالب وأهل بيته الطيبين الطاهرين، فالثبات على ولاية علي بن أبي طالب أمانة وهي من أعظم الأمانات التي تحتاج إلى صبر وتحتاج إلى تحمل وتحتاج إلى إرادة وتحتاج إلى عزيمة، لذلك أشار إليها القرآن الكريم بعنوان الأمانة، هذا تفسير مصداقي إلى الأمانة.
نأتي إلى المحور الثالث من حديثنا: الأمانة العلمية
الأمانة على أقسام ثلاثة: تارة تكون أمانةً مالية، وتارة تكون أمانة عملية، تارة تكون أمانة علمية. الأمانة المالية واضحة، كأن أعطيك جهاز تحفظه لي لأني مسافر إلى أن أرجع، هذه أمانة مالية. وتارة تكون الأمانة عملية، مثلاً: فلان وليّ على تربية الأطفال، فلان وليّ على رعاية الأوقاف، فلان وليّ على رعاية الأيتام، هذه أمانة عملية يعني أؤتمن على عمل وهو حفظ مال الوقف، أو حفظ مال اليتيم، أو حفظ مال أي شخص آخر.
وهناك أمانة علمية، ما هي الأمانة العلمية؟ مثلاً: الطبيب مؤتمن لكن أمانة علمية، الطبيب مؤتمن على العلم الذي درسه أن يطبّقه بأمانة وإخلاص وصدق، هذا الطبيب يفتح له عيادة، كم يستطيع أن يعالج من المرضى؟ يستطيع أن يعالج مثلاً في اليوم عشرة أشخاص، وهذا الطبيب يدخل عليه في اليوم خمسين شخصاً، فلا يستطيع أن يعالجهم كما ينبغي، لأن قدرة الإنسان محدودة، والعلاج يحتاج إلى فحص دقيق وتركيز ذهني وتفرغ، إذا دخل المريض على الطبيب فالمريض يقول للطبيب: أنا أمانة عندك، أنت أودِعْت علماً وهو علم علاج الأبدان، وهذا العلم أمانة لديك، فمقتضى الأمانة أن تطبق هذا العلم بدقة وإخلاص، إذن أنا الطبيب مؤتمن على علم الطب، إذا رأيت الطبيب بدل أن يأخذ الوقت الكافي في الفحص والتدقيق تجده يمشيّها ومع السلامة فهذا خلاف الأمانة. مقتضى الأمانة أن يسخّر الطبيب طاقته وقدرته في الفحص الكافي حتى يتوصل إلى العلاج الدقيق، هذا هو مقتضى الأمانة، هذه نسميها الأمانة العلمية.
الأمانة العلمية للطبيب كالأمانة العلمية للفقيه، الفقيه أيضاً أمين، أمين على دين الله وشرعه، ورد في الرواية عن الحسين بن عليه: ”مجاري الأمور بيد العلماء أمناء الله على حلاله وحرامه“. الفقيه أمين، كما أن الطبيب أمين إئتمنه الله على أبدان الناس، وعلى علم الطبيب، كذلك الفقيه، الفقيه أمين إئتمنه الله على الحلال والحرام وعلى الشريعة وعلى الدين، وهي أعظم أمانة وأقدس أمانة، وأشد الأمانات خطورة الأمانة على الدين، أن الدين دين الله أمانة بيد أمناء الله على حلاله وحرامه، فالفقيه يحمل أمانة خطيرة جداً وهي أن شرع الله بيده، لذلك لا بد أن يتمتع الفقيه بأعلى درجات العدالة، وأعلى درجات التقوى، لمَ؟ لأنه حمّل أمانةً خطيرة تحتاج إلى أعلى درجات التثبت والتقوى والعدالة حتى يقوم بحفظ هذه الأمانة وجعلها في مواردها وفي محالّها ”مجاري الأمور بيد العلماء أمناء الله على حلاله وحرامه“.
فالشرع أمانة والشريعة أمانة ودين السماء أمانة وأخطر أمانة بيد من؟ بيد الفقيه، لذلك ترى فقهاءنا الأمناء يكرسون أوقاتهم الطويلة... الواحد يستغرب ويقول: لماذا هذا الفقيه يأخذ وقتاً طويلاً حتى يستنبط الحكم الشرعي، وسنين طويلة حتى يكتب رسالته العملية، يفحص ويدقق ويفحص وينقب ويرجع ويكرر ويرجع ويكرر، لماذا؟ لا داعي لهذا، فأنا أقرأ القرآن الكريم وأفهمه وأقرأ الروايات وأفهمها، فالقضية سهلة.
[وفي الإجابة على ذلك نقول:] مقتضى الأمانة - لأنه أؤتمن على الدين - مقتضى الامانة أن يقف عند كل حرف، أن يقف عند كل كلمة، أن يبذل أقصى وسعه وأقصى طاقته، أقصى ما أعطاه الله من قدرة عقلية ومن قدرة ذهنية من قدرة ذوقية، أن يبذل أقصى طاقته في سبيل استنباط الأحكام الشرعية لذلك يطيل في استنباط الأحكام، فترات طويلة حتى يكون قد استفرغ وسعه وطاقته فيما أؤتمن عليه وفيما استودع عنده.
3 وظائف للفقيه
الفقيه المرجع له وظائف ثلاث أؤتمن عليها وهو حامل الأمانة بالنسبة إليها:
المنصب الأول: منصب الإفتاء، لا يجوز له أن يفتي في حال التعب، الفقيه لا يفتي في حال تعب بدنه، أبداً، تراه يؤجل الفتوى حتى يكون مركزاً فارغاً متأملاً لكي يبذل أقصى قدرته في سبيل إصدار هذه الفتوى، هذه أمانة، لأجل ذلك جاءت الرواية لتعلمنا معالم الأمانة التي تؤهل لمنصب الإفتاء كما ورد عن الإمام العسكري : ”فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه مخالفاً على هواه“ لاحظ التعبير الدقيق فإنه لم يقل مخالفاً لهواه وإنما قال: ”مخالفاً على هواه“، «على« إشارة إلى المغالبة يعني دائماً هو في حالة مغالبة ومصارعة لهواه ”مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه“ هذه إشارة إلى معالم الامانة، حتى يكون أميناً على الفتوى لا بد أن يكون متمتعاً بهذه الصفات، ”مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه“.
المنصب الثاني: منصب القضاء. القضاء لا يجوز إلا للمجتهد، كثير من الناس يظنون أن كل شخص يدرس يصبح قاضياً، لا، القضاء خاص بالمجتهد، بالفقيه، لا يجوز لغير المجتهد أن يتصدى لمنصب القضاء، حرام شرعاً، القضاء خاص بالمجتهد، لذلك يفتي سيدنا الخوئي قدس سره والسيد الأستاذ السيد السيستاني دام ظله بأن القضاء من خواص المجتهد الفقيه، لاحظ مقبولة عمر بن حنظلة: ”ولكن ينظران من كان منكم ممن روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا“. «نظر« يعني عنده قدرة النظر، يعني عنده قدرة الاستنباط ”ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً“. - ولذلك الإمام أمير المؤمنين يخاطب شريح القاضي، يقول: ”يا شريح جلست مجلساً لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي“
أما «نبي» فواضح، وأما «وصي نبي» فيشمل الأئمة وفقهائهم الذين هم نواب الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم، هذا وصي نبي. أو «شقي». ”جلست مجلساً لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي“. - ”فإذا حكم بحكمنا - صدر الحكم من المرجع - فلم يقبل منه فإنما بحكمنا استخف وعلينا رُد والراد علينا راد على الله وعلى رسوله وهو على حد الشرك بالله“.
المنصب الثالث من مناصب الفقيه التي تحتاج إلى الأمانة: الولاية، الزعامة، الفقيه المرجع ولي أمر المسلمين، زعيم الأمة، قائد الأمة. المنصب الثالث من مناصب الفقيه الولاية سواء قلنا بالولاية العامة كما يقول به الإمام الخميني قدس سره أو قلنا بالولاية في الأمور الحسبية كما يقول به سيدنا الخوئي قدس سره، على أية حال المنصب الثالث للفقيه منصب الولاية، يعني أن الفقيه قائد الأمة، زعيم الأمة، يصدر أحكاماً ولايتية على الأمة تنفيذها، وتطبيقها، والحكم الولايتي يختلف عن الفتوى، الفتوى قضية كليةً، مثلاً: يقول الفقيه: من شك بين الثلاثة والأربع في صلاته بنى على الأربع وسلم وأتى بركعة احتياط قائماً. هذه فتوى لأن هذا حكم عام. أما الحكم الولايتي فهو الخطاب الصادر من الفقيه في ظرف معيّن، ترى الفقيه يقول: يحرم شراء البضائع الإسرائيلية. هذا يسموه حكماً. - صدر خطاب في ظرف معيّن - هذا ليس حكماً لكل زمان ولكل مجتمع. لا، هذا ظرف خاص ما دامت هذه الدولة محاربة للمسلمين. أو أن الفقيه يصدر خطاباً: على الشعب أن يخرج في الانتخابات ليختار مثلاً الرئيس الصالح. هذا حكم ولايتي أصدره في ظرف معين. عندما يصدر الفقيه يقول: على الشعب أن يخرج لقتال الإرهابيين والمجرمين. هذا حكم ولايتي على الشعب أن ينفّذه ويطبقه.
إذن المنصب الثالث للفقيه هو منصب الولاية، وهو أمين على هذا المنصب كما هو أمين على منصب الإفتاء وعلى منصب القضاء هو أمين أيضاً على منصب الولاية.
كيف يعني أمين على منصب الولاية؟ الفقيه ليس واحد مخربط كل يوم يصدر بياناً، كلا، الفقيه يضع الأمور في مواضعها، الفقيه يختار الظرف المناسب للموقف المناسب والكلمة المناسبة لأنه إنسان أمين أؤتمن على الولاية وعلى منصب الزعامة، لذلك يطبق هذا المنصب في موارده وبحدود دقيقة جداً، ليكون مصداقاً للأمين ”مجاري الأمور بيد العلماء أمناء الله على حلاله وحرامه“.
وعندما نقرأ هذا المذهب العظيم مذهب التشيّع، هذا المذهب الذي بذل في سبيله الأئمة ما بذلوا، الأئمة: أمير المؤمنين تحمل كل المصاعب في سبيل حفظ مذهب التشيّع، وتحمل الحسين وأبناء الحسين ما تحملوا في سبيل حفظ مذهب التشيّع، هذا المذهب العظيم أمانة في أعناقنا، وأمانة بدرجة أكبر في أعناق علمائنا ومراجعنا، هذا المذهب العظيم الذي منذ أن بدأ بدأ مع الإسلام، بدأ مع الإسلام توأماً، هو الإسلام والإسلام هو، منذ أن بدأ هذا المذهب العظيم بدأ بالتضحيات، ما جاء بالكلام، هذا المذهب ما جاء بالشورى ولا بالسيف ولا بالقوة، هذا المذهب جاء بالتضحيات، جاء عن طريق تضحية الزهراء ، تضحية الحسن، تضحية الحسين، تضحية الكاظم، تضحية الرضا، تضحية الهادي، تضحية العسكري، مذهب التشيع إنما ثبت على الأرض لا بالسيف، ولا بالقوة، ولا بالشورى، وإنما ثبت بالتضحيات والبطولات، فهو مذهب ترسخ بالتضحيات والبطولات منذ أول يوم من أيامه، لذلك كان حفظ هذا المذهب أمانة في أعناق أبنائه، وأمانة بدرجة أكبر في أعناق علمائه ومراجعه، فهم المؤتمنون عليه.
من خصائص هذا المذهب الذي يتميز بها على الملل والنحل الأخرى أن قوة هذا المذهب أين تكمن؟ إذا أردت أن تقرأ المذاهب تقول: أين قوة المذهب الشافعي؟ أين قوة المذهب المالكي؟ أين النقطة التي بها يتبين لنا قوة المذهب المالكي او الشافعي؟ أين النقطة التي يتجلى لنا بها قوة المذهب الإمامي؟ أين؟ قوة المذهب الإمامي في المرجعية، في منصب المرجعية، منصب المرجعية هو الذي يضفي على هذا المذهب قوة يتميز بها على المذاهب الأخرى، كلمة المرجع كلمة نافذة سارية، كلمة المرجع ترفع أمة وتضع أمة اخرى، كلمة المرجع تخلق مجتمعاً جديداً آخر غير المجتمع السابق، إذن قوة المذهب الإمامي تتجلى لنا في منصب المرجعية، وإنما يكون منصب المرجعية مصداقاً لقوة المذهب الإمامي لأن منصب المرجعية لدى الإمامية لا يعطى لأي أحد، أمانة هذا لا يسلّم لأي احد، ليس كل من فتح قناة أو إذاعة قال: أنا آية الله والمرجع، كلا، في الشيعة ما تصير هذه، المرجعية لا تنال بالإعلام ولا تنال بالألقاب ولا بالدعاية، أبداً ما تصير، ولا بالأموال، المرجعية لدى الإمامية التي هي سرّ قوتهم وسر عظمة مذهبهم لا تنال إلا بالكفاءة العلمية المعروفة بالحوزات العلمية، إذا شهدت الحوزات أن هذا في طليعة الفقهاء وفي طليعة الأساتذة استحق منصب المرجعية. الكفاءة العلمية مميز، والخصلة الثانية: الأمانة، أن يُعرف في الحوزات العلمية بالزهد بالتقوى بالورع، سيدنا الأستاذ السيد السيستاني دام ظله منذ أن كان طالباً في دوحة أستاذه السيد الخوئي قدس سره معروف بالتقوى والورع والزهد، تاريخه تاريخ علمي وتاريخ تقوى وتاريخ الزهد والورع، هذا التاريخ العلمي والعملي هو الذي يؤهله لأن يكتسب منصب المرجعية، ولذلك السيد الأستاذ دام ظله لم تقم القنوات بالترويج له، ولم يقم الإعلام بالتطبيل له، ولا احتاج إلى الأموال، ولا احتاج إلى هذا، لما توفّي أستاذه السيد الخوئي قدس سره وتهيأت الأرضية برز على عالم التشيع، ما كان محتاجاً إلى قنوات ولا إلى إعلام ولا إلى شيء أبداً.
إذن بالنتيجة سر عظمة المذهب في عظمة المرجعية، وسر عظمة المرجعية في الكفاءة العلمية والزهد والتقوى التي تتحلى بها، لذلك هذه الخصال العظيمة هي التي تؤهل المرجع لأن يكون أميناً على الشريعة، وأميناً على المنصب الولاية. ومن الخصال التي تمتع بها مراجعنا الأعلام قدس الله أسرارهم وحفظ الله الباقين منهم مضافاً إلى الكفاءة العلمية، ومضافاً إلى الزهد والتقوى، الحكمة، يضعون الأمور في مواضعها، يختارون الظروف المناسبة للكلمة المناسبة والموقف المناسب، ولذلك هم مثال إلى القيادة الحكيمة والزعامة الحكيمة التي تضع الأمور في مواضعها.
وعندما نقرأ تاريخ مراجعنا الأعلام ما وجدنا مرجعية صامتةً، هذا التصنيف تصنيف ظالم للمرجعية، ليس عندنا مرجعية صامتة، ولا وجدنا مرجعية نائمة، ولا وجدنا مرجعية متخلفة، وجدنا مراجعنا الذين اختارتهم الحوزة العلمية لتحمل هذه الأمانة أكفاء في الناحية العلمية، مظاهر للتقوى والورع، حكماء في وضع الأمور في مواضعها، واختيار المواقف بحسب ظروفها. الميرزا محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين في العراق خطط للثورة وأعلن الثورة في الظرف المناسب لها، قبل الميرزا طبعاً كان أناس قالوا قوموا ثوروا لكن هو كان ساكت، إلى ان جاء الظرف المناسب، هو المرجع - طبعاً لا يعني أن المرجع لا يستشير، فبعض الناس يظن أن المرجع لا يستشير، لا، هذا اشتباه، مراجعنا كلهم يستشيرون، أهل العقل، أهل الحصافة، أهل الفهم. السيد السيستاني عنده مستشارون يرجع إليهم ويستشيرهم ويستنير بآرائهم، المرجع ليس دكتاتوراً مستبداً برأيه، جميع مراجعنا يمشون على طريق الاستشارة وأخذ الرأي من أهل الرأي - الميرزا الشيرازي قبل أن يعلن هو الثورة كثير من الناس أعلن الثورة، كل واحد بكيفه، ما استجاب الشعب لهم، هو لأنه زعيم محنك حكيم عندما رأى الظرف المناسب لإعلان الثورة أعلنها فقام العراق معاً في ذلك الظرف العصيب. الإمام الخميني قدس سره متى أعلن الثورة؟ ربما قبله علماء أعلنوا، ربما بعده علماء أعلنوا لكنه اختار الظرف المناسب للموقف المناسب، وهكذا.
سيدنا الخوئي قدس سره الذي اُتُهِم بالرجعية والتخلف والصمت وأنه مرجعية صامتة وليست ناطقة، عندما تهيأ الشعب العراقي في الانتفاضة الشعبانية تحمّل المسؤولية وقام بالأمانة وباشر الأمور وصار بيته هو محل التدريب والأسلحة والأخذ والرد، وضع الأمر في موضعه، وهكذا علماؤنا الأبرار: السيد الشهيد السيد محمد باقر الصدر، السيد عبد الأعلى السبزواري قدس سره وهكذا علماؤنا الأبرار.
ومن هؤلاء العلماء الأبرار الأتقياء الأكفاء الحكماء السيد الأستاذ السيد السيستاني دام ظله، برهن بحكمته على مدى هذه السنين مدى حنكته وفهمه ووفور علمه، وأنه يضع الأمور في مواضعها، فهو من جهة يصرّح: السنة ليسوا إخواننا بل هم أنفسنا، نحن ندافع عنهم، نحن نضحي في سبيلهم، نحن نمنحهم ما يريدون وفوق ما يريدون. ولكنه من جهة اخرى يقول بأن الإرهابيين الذي يهددون الحياة ويهددون العتبات المقدسة، ويهددون وحدة المجتمع، ويهددون رسوخ الكيان الإسلامي لا بد من مواجهتهم في سبيل حفظ المجمتع الإسلامي عن الفتنتة والفرقة، في سبيل حفظ العتبات المقدسة، في سبيل حفظ وحدة الكلمة، في سبيل حفظ الأعراض والأموال والأنفس والكرامات والحرمات
إذن لا تناقض بين الموقفين: هو من جهة يؤكد ويبقى يؤكد أنه لا فرق بين المذاهب الإسلامية، كلهم سواء، كلهم يظلهم الإسلام بظله الوارف، ومن جهة أخرى أن الفئة - هناك فئة معيّنة واضحة لدى كل المسلمين مهما حاول بعض وسائل الإعلام ان يلف ويدور، هذه الفئة لا تمثّل السنة ولا تمثّل الشيعة ولا تمثّل الإسلام ولا تمثّل أي ملة أخرى، هذه الفئة المعينة هي التي رآها السيد السيستاني دام ظله فئة خطيرة على وحدة المجتمع الإسلامي، وعلى ترابط الكيان الإسلامي، فقال بأن هذه الفئة لا بد من مواجهتها.
إذن المرجعية الشيعية مظهر للأمانة في مختلف أدوارها: في دور الفتوى، في دور القضاء، في دور الولاية، هي مظهر للأمانة، وهي مصداق جميل لتحمل الأمانة.