يحاول الإنسان دائماً أن ينظر إلى كل قضية من القضايا من نافذة الحس، وأن يدرسها من خلال المنظار الحسي المادي، لأن أوثق المعلومات لديه هي تلك التي تتألف من هذه المعلومات الحسية، ولهذا فإن المسائل التي تحظى بأدلة حسية أكثر تكسب في العادة قسطاً أكبر من ثقة الإنسان، وتصديقه.
وعلى هذا الأساس عمد العالم اليوم إلى تأسيس آلاف المختبرات الضخمة للتحقيق في شتى القضايا العلمية، ويعكف العلماء في هذه المختبرات على دراسة وتحليل الأمور المتنوعة بأسلوب خاص وطريقة معينة.
ولكن هل يمكن -تری- أن تدخل المسائل والقضايا الاجتماعية في نطاق التجربة المختبرية، وتخضع للمجهر والميكرسكوب، ليمكن الحكم في هذه المجالات من خلال ذلك؟!
فمثلا؛ هل يمكن أن نعرف عن طريق التجارب المختبرية مايؤدي إليه الإختلاف والتشرذم في المجتمع الواحد، وما يصيب شعبًا من الشعوب أو أمّة من الأمم من هذا الطريق؟
أم هل يمكن تقييم ما تنتهي إليه جهود المستعمرين، أو ما يؤل اليه الظلم والحيف، من خلال تجربة حسية؟
أم هل يمكن الوقوع على نتائج «الاختلاف الطبقي»، و«التميز العنصري» في المجتمع عن طريق التجربة المختبرية؟
في الإجابة على كل هذه الأسئلة يجب أن نقول: كلا مع الأسف.
وذلك لأنه لا توجد للقضايا الاجتماعية، رغم أهميتها القصوى – مثل هذه المختبرات، وحتى لو أمكن توفير مثل هذه المختبرات المناسبة لتحليل وتقييم ودراسة القضايا الاجتماعية، فإن إنشاءها وإيجادها يكلف نفقات باهضة، وتستدعي جهوداً عظيمة.
ولكن الأمر الذي في مقدوره أن يقلل من حجم هذا النقص إلى حد كبير هو أننا نملك اليوم شيئا يسمى بـ: «تاريخ الماضين» والذي يشرح لنا ما كان عليه البشر. أفراداً وجماعات، طوال آلاف السنين من الحياة على هذه الأرض، كما ویعكس مختلف الذكريات والخواطر عنهم، من انتصارات وهزائم، ونجاحات وانتكاسات، ويوقفنا بالتالي على كل ما وقع في حياة الأمم والشعوب من حوادث مُرّة او حلوة.
وإن من حسن الحظ أننا لم نكن أول من حط قدمه على هذا الكوكب، فهذه الأرض بسهولها وشعابها العريضة، وتلك السماء بنجومها وكواكبها الساهرة شهدتا ملايين الملايين من البشر الذين سكنوا الأرض من قبلنا، وشهدنا أفراحهم وأتراحهم، همومهم وغمومهم، حروبهم، ومصالحاتهم، وكل ما رافق واكتنف حياتهم من حب وبغض وظلمات وأنوار، وارتقاء وهبوط، إلى غير ذلك من شؤون وشجون الحياة البشرية التي يزخر بها تاريخ الشعوب والأقوام والأمم.
صحيح أنهم قد اختفوا مع الكثير من أسرار حياتهم، وغابوا جميعاً، أشخاصاً وأسراراً في بحر من النسيان وانسدل عليهم الستار، إلا أن قسطا ملفتاً للنظر وجملة يعتد بها من تلك الأمور إما أنها قد دونت بأيدي أصحابها، أو لا تزال طبقات الارض وبطون التلال تحتفظ بها في ثناياها وطياتها، كما ولا تزال ذات الأطلال الصامتة في ظاهرها تشكل أضخم متحف، واغنى معرض وأكبر مختبر، يعيد لنا شريط التاريخ ويحكي وقائعه وأحداثه، ويشرح رموزه وأسراره.
إن مطالعة تلكم الصفحات من تاريخ الأمم الغابرة في الكتب، أو في الأطلال العظيمة، أو فيما يعثر عليه المنقبون في بطون التلال، وثنايا الارض تعلمنا أمور كثيرة، وتضيف إلى عمرنا مرة جديدة وزمناً إضافياً، لا يستهان به وذلك بما تقدم لنا من الخبرة والعبرة، والهدى والبصيرة...
أليست حصيلة العمر ماهي إلا ما استفاده المرء من تجارب؟ ألا يجعل التاریخ خلاصة أفضل التجارب تحت تصرفنا؟
ولقد اشار الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) في وصية لولده إلى هذه الحقيقة حيث قال:
«أَيْ بُنَيَّ إِنِّي وإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي – فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ وفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ – وسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ – بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ – قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ».
[الخطبة ٣١ من نهج البلاغة]
المصدر: كتاب سيّد المرسلين، ج١.