كتب محمد تيسير الزعبي:
خلال عملي معلّمًا ثمّ مدرّبًا للمعلّمين، لاحظت أنّ أسئلة المعلّم تركّز عادةً على كيفيّة تعليم الطلبة قليلي التحصيل الدراسيّ، أو كيفيّة التعامل مع الطلبة المشاغبين، وقلّما سمعت أسئلةً عن التعامل مع الطلبة "الموهوبين"، ولدى سؤال إحدى المعلّمات عن سبب ذلك، قالت: "هؤلاء طلبة لا يحتاجون معلّمًا!".
وأنا أرى أنّ التخلّص من هذه الفكرة أمر مهمّ ضروريّ، إذ أنّ المعلّم يجب أن يعمل عمل أنزيم لعمليّة تعلّم الطلبة جميعهم، ويجب أن يجد الطلبة الموهوبون في التعلّم المقدّم لهم شيئًا جديدًا يستفيدون منه، ويضيفونه إلى خبراتهم. ويبدو لي أنّ العلّة وراء هذه النظرة المعيبة إلى علاقة المعلّم بالطالب الموهوب هي تركيز النظم التعليميّة على الاختبارات التحصيليّة، فتجعلها هدفًا في ذاتها.
يهدف هذا المقال إلى إكساب المعلّمين نظرةً جديدةً نحو الطلبة الموهوبين، وسبل اكتشافهم، وشروط عمليّة تحديدهم، وأساليب دعم تعلّمهم في سبيل ألّا نهمل جزءًا من الطلبة بسبب كونهم يتجاوزون الاختبارات التحصيليّة بيسر.
ما هي الموهبة؟
طال اختلاف الباحثين على تعريف الموهوب، والتقت جهودهم عند بعض العناصر التي ينطلقون منها في تعريف مخصّص لهذا الطالب المختلف. مثلًا يرى جروان (2016)، أنّ الموهبة "قدرة فطريّة أو استعداد موروث" تحتاج إلى اكتشاف وصقل. وينقل صبحي (2002)، عن مؤتمر عقد في برشلونة تعريفًا شاملًا توصّل إليه المؤتمرون: "الموهبة العقليّة هي سمة إنشائيّة تتشكّل في القدرة العامّة (الذكاء)، والقدرة على التفكير الإبداعيّ، والتحصيل الأكاديميّ رفيع المستوى إلى جانب الخصائص السلوكيّة".
لكنني أرى أنّ حصر الموهبة في الأسباب الوراثيّة يترك لدى الطلبة انطباعًا سلبيًّا بأنّها السبيل الوحيد للوصول إلى الموهبة، ممّا يجعل الطلبة يستسلمون لهذه الحصريّة، وهذا ما يجعلهم لا يبذلون جهودًا لتحقيق سمات الطالب الموهوب، ويبرّرون لأنفسهم عدم إظهار مواهبهم أو صقلها. وبعد ذلك، أليست كلمة موهبة تشمل كلّ ما نمنحه بوصفه هبةً، ومن ذلك أمور خارجة عن إرادتنا آتيةً من البيئة لا من الوراثة؟
وعن سمات الطالب الموهوب، يعدّد عياصرةً وإسماعيل (2012)، عددًا كبيرًا من المؤشّرات التي يستند إليها المعلّم في إطلاق وصف موهوب على طالب ما، منها: امتلاك الشغف المعرفيّ، والخيال الواسع، والفضول الذي يدفع إلى طرح الأسئلة وإثارة النقاشات، والقدرة على الربط العميق بين الآراء والأحداث، وإدراك العلاقات، وسهولة التعلّم، والتنوّع في الرغبات والميول، وابتكار الأساليب، والانتباه الدقيق للمحيط، والتعبير الواضح الدقيق، والاستقلاليّة في العمل إلى جانب إتقان العمل ضمن فريق، وخصائص أخرى تتعلّق بحدّة الذاكرة وسعة الاطّلاع.
يجب أيضًا أن نميّز بين مصطلحات كثيرة هنا، فالطالب المتفوّق دراسيًّا، والطالب المبدع، والطالب الشغوف، والطالب المنضبط... إلخ، ليست أسماءً تطلق بصورة تبادليّة، إذ ثمّة فروق بين هؤلاء الطلبة، لكنّ الخلط قد يأتي أحيانًا من وجود طلبة يمكن تصنيفهم في هذه الدوائر جميعها معًا. أحاول هنا أن أتناول الطلبة الذين ينظر إليهم بعض المعلّمين على أنّهم "لا يحتاجون معلّمًا" بسبب تحلّيهم بقدرات خاصّة تجعلهم عرضةً لأن يكونوا ضحيّة إهمال المعلّمين لهم في الدروس الموجّهة إلى أقرانهم.
شروط اكتشاف الموهوبين
هنا، علينا ذكر أنّ من واجب المعلّم التخلّص من أيّ انحياز لديه تجاه أحد الطلبة على حساب آخر، إذ يجب ألّا يطلق وصف موهوب على أنّه مكافأة لطالب نظير اشتراكه في الأنشطة المدرسيّة المتنوّعة، وعلى المعلّم الذي يجري اختبارات الموهبة، ومقابلات الكشف عنها أن يتلقّى تدريبًا متخصّصًا، وأن يضفي طابعًا من السرّيّة على أدوات اكتشاف الموهبة قدر الإمكان، وأن يراعي كلّ ما من شأنه أن يضمن نزاهة التقييم وصدقيّة الاختبار.
حسب جروان (2016)، فإنّه لكي تكون عمليّة تحديد الطلبة الموهوبين دقيقةً وصادقةً فإنّها تمرّ بثلاث مراحل من الاختبارات والمقابلات. تتضمّن المرحلة الأولى اختبارات المعلومات العامّة، وقياس نسبة الذكاء، ومستوى تحصيل الطلبة المستهدفين أكاديميًّا، وهذه الاختبارات يعدّها فريق من الخبراء والمتخصّصين في رعاية الموهوبين، ثمّ يدرّبون المعلّمين على إجرائها في المدرسة، وكيفيّة تصحيحها واستخلاص النتائج وذكر المؤشّرات الدالّة عليها. وتتضمّن المرحلة الثانية مهمّات أو نشاطات تظهر ميول الطالب واهتماماته وعمق ثقافته ومهاراته، مثل الانخراط في حلقات حوار أو تصميم أنشطة حاسوبيّة أو أنشطة أدائيّة وتمثيليّة، ويشرف عليها متخصّصون من المدرسة. وفي المرحلة الثالثة يقدّم أولياء الأمر، أو مديرو المدارس، أو المعلّمون السابقون، أو أيّة أطراف تعمل مع الطالب توصيات توثّق حوادث أو قصصًا تبرز الموهبة.
إنّ دقّة التصنيفات والنتائج تتطلّب معايير متّفقًا عليها بين المقيمين، يخضع لها الموهوبون على نحو متساو، ويشترك في فحصها عدد من المتخصّصين يتّخذون القرار دون ضغوط، بل وبمبرّرات ومؤشّرات مقنعة مبنيّة على أدوات علميّة، لا انطباعات ذاتيّة، أو مصالح شخصيّة.
دعم تعلّم الموهوبين
هذه المسؤوليّة تقع على عاتق أعضاء المجتمع المدرسيّ كافّةً. أولى الخطوات التي تنمّي الموهبة أن نضع الطالب مع أقران يشابهونه في المستوى والمواهب، ذلك أنّ التنافسيّة الإيجابيّة ستكون في أعلى درجاتها بين الطلبة، وتدفعهم لاستثمار مواهبهم وإظهارها بأساليب لافتة، وهذا لا يعني تجميع الموهوبين في صفوف منفصلة، بل أن يكونوا في محيط يستثير مواهبهم.
من جهةً أخرى، علينا المحافظة على حماس الطلبة الموهوبين نحو مواهبهم عاليًا، وأنّ نوفّر البيئة التعليميّة المناسبة التي تلبّي الحاجات المختلفة للموهوب، وأن تشمل البرامج المقدّمة للموهوب النواحي السلوكيّة والنفسيّة والاجتماعيّة والتعليميّة، وأن نراعي أوقات تنفيذها الوقت داخل المدرسة، وبعد انتهاء اليوم المدرسيّ بمهمّات واضحة تحقّق مهارات عميقةً مثل "مهارات حلّ النزاع، والتفكير النقديّ، والتحليل الإبداعيّ".
من الأنشطة اللّاصفيّة التي تتيح للمعلّمين دعم الموهوبين داخل المدرسة وخارجها، تنظيم مناظرات بين الطلبة الموهوبين في مواضيع مختلفة، بحيث يتولّى الموهوبون الإعداد الكامل لهذه المناظرة، من تحديد الموضوع إلى بناء الحجج، وتشكيل الفريق المؤيّد لموضوع المناظرة، والفريق المعارض، ويكتفي المعلّم بالإشراف ورصد التطوّرات.
في داخل المدرسة أيضًا، يمكن تنظيم فعاليّات يديرها الموهوبون مثل محاضرات متخصّصة، تستضيف فيها المدرسة خبيرًا في موضوع معيّن فيقدّم الموهوب الضيف، ويستقبل أسئلة المشاركين، ويدير الحوار بين الضيف والجمهور.
يمكن للمدرسة أيضًا عقد حلقات نقاش متخصّصة في موضوع معيّن يديره أحد المعلّمين ويشارك في النقاش موهوبون، فيثيرون الأسئلة، ويبرزون التعدّد والاختلاف في وجهات نظرهم الشخصيّة بما يتيح لهم إثبات حضورهم، وإظهار مهاراتهم ومواهبهم في العرض والتحدّث وتناسق الأفكار والفهم العميق.
في الجانب التعليميّ، فإنّ المدرسة تستطيع بإشراف قسم الإرشاد المدرسيّ أن تستثمر مهارات الموهوبين في دعم الأقران المتعثّرين دراسيًّا، سواءً داخل صفوف الموهوبين أو خارج صفوفهم، وفق برنامج منظّم لا يتعارض مع جدول حصص الموادّ الدراسيّة.
كي تغطّي برامج تعليم الموهوبين وقت الموهوب خارج المدرسة بالإمكان الطلب منهم إجراء البحوث فرديًّا أو جماعيًّا في مواضيع معيّنة، أو أن يجروا عددًا من المقابلات مع أصحاب سير ملهمة من المؤلّفين أو المتخصّصين أو أصحاب البصمات من ذوي المواهب القريبة من مواهبهم.
لأنّ دور المدرسة يمتدّ إلى المجتمع، ومساعدة أفراده فإنّ المدرسة تستطيع استثمار مهارات الموهوبين خارج الصفّ، بطرح مبادرات مجتمعيّة بنّاءة إيجابيّة مثل تقديم أنشطة مهاريّة في مراكز رعاية الأيتام، ودور رعاية المسنّين، والمراكز الثقافيّة والمكتبات العامّة والنوادي، كي يجري الموهوبون أعمالًا تطوّعيّةً وتعلّميّةً وفق برامج محدّدة آمنة تقنيًّا وإداريًّا.
نجاح هذه الأنشطة في تطوير مواهب الطلبة يجب أن يرافقه تنسيق كبير بين المدرسة والأسرة، فالمدرسة تحرص على التعامل مع الموهوب بطريقة احترافيّة، وبإشراف خبراء، إضافةً إلى تأهيل المعلّمين وتدريبهم على أساليب رعاية متخصّصة بهذا النوع من الطلبة، وإلى جانب هذا الدور، تقوم المدرسة على توعية الأسرة بأهمّيّة الأنشطة التي تنفّذها، وضرورتها لرعاية موهبة أبنائها في التكيّف مع مواهبهم، ومع المنهج الدراسيّ، والمجتمع الذي يعيشون فيه.
إنّ جهود دعم الموهوب قد تواجهها بعض التحدّيات التي من بينها رفض الأهل انخراط ابنهم في أنشطة خارج غرفته الصفّيّة أو المدرسة، وحصر اهتمامها بتحصيل ابنها الدراسيّ وبقاء علاماته عاليةً، وأن يبقى الأوّل في صفّه.
في إحدى المدارس التي عملت فيها معلّمًا للمرحلة الأساسيّة المتوسّطة قرّرت المدرسة تسريع عدد من الموهوبين، لكي يجتازوا صفّين دراسيّين في العام الدراسيّ الواحد، لكنّ عائلة أحد الطلبة الذين اجتازوا الاختبارات والمقابلات، وانطبقت عليهم شروط التسريع رفضوا ذلك، وقرّروا إبقاء ابنهم ضمن مرحلتهم العمريّة العاديّة، وأن يبقى مع زملائه الذين بدأ معهم الدراسة منذ الصفوف الأولى. لذلك، فللتأكّد من أن يأخذ الأهل والطالب قرارًا مبنيًّا على البيّنات، فإنّه لا بدّ من توضيح ظروف هذا التسريع لهم بصورة دقيقة، فقد يختلف القرار بعد التوضيح.
خلاصة
إنّ اكتشاف الطلبة الموهوبين في المدرسة أو في المجتمع أو في أيّ مكان أمر ضروريّ مهمّ، يساعد على تطوير البرامج التعلّميّة المتخصّصة التي تجعلهم أكثر إبداعًا، وتستثير دافعيّتهم؛ لإخراج مواهبهم بالطريقة الفضلى، وتوظيف هذه المواهب بما يخدم المحيط الذي يكونون فيه، لذلك فإنّ على وزارات التربية والتعليم اعتماد برامج حديثة لرعاية الموهوبين، وإكساب المعلّمين مهارات اكتشافهم وتصنيفهم، ورفد المناهج بالمهارات التي تمكّن الموهوبين من إظهار مهاراتهم وإبداعاتهم.
المراجع
تيسير، صبحي. (2002). عرض ومراجعة لكتاب دليل المعلم والأسرة في رعاية الموهوبين من تأليف لويس بوركر. مجلة العلوم التربوية. (1). 12-25.
جروان، فتحي. (2016). الموهبة والتفوّق. ط7. دار الفكر.
عياصرة، سامر وإسماعيل، نور. (2012). سمات وخصائص الطلبة الموهوبين والمتفوّقين كأساس لتطوير مقاييس الكشف عنهم. المجلّة العربيّة لتطوير التفوّق. 3(4). مركز تطوير التفوق 97-115.
المصدر: موقع منهجيّات