يعاني الإلحاد من إشكالية لها علاقة بطبيعة التفكير، والإلحاد ليس إلا ضحيةً للتفكير الذي عظم الحس وأهمل العقل، فالموجود عندهم لابد أن يكون مادياً بالضرورة، فالذي يكتفي بالحس لا يمكنه رؤية شيء خارج حدود المادة.
ومعالجة هذه الإشكالية لها علاقة بنظرية المعرفة بوصفها العلم الذي يبحث في إمكانية المعرفة ومصادرها وأدواتها، وقد ناقشت الفلسفة الإسلامية هذا الأمر بإسهاب وأثبتت بما لا يدع مجالاً للشك بأن الموجود أعم من الوجود المادي.
ومن هنا تتميز الفلسفة الإسلامية على الفلسفات المادية بعدم إهمالها لأي مصدر من مصادر المعرفة، حيث لا يمكن الاكتفاء بالحواس لمعرفة كل الحقائق لبداهة وجود حقائق غير حسية، كما لا يمكن الاكتفاء بالعقل دون الحواس لأن في ذلك إهمالاً للحقائق الحسية، فمن يحصر أدوات المعرفة في الحواس لا يمكنه الاعتراف حتى بالعقل والروح بوصفهما خارجان عن دائرة الحواس.
أما من يؤمن بالعقل طريقاً إلى المعرفة بجانب الحواس، يمكنه التصديق بما هو حسي وبما هو خارج عن حدود الحس؛ وذلك لأن العقل له قدرة على الاستنتاج والاستنباط واستخلاص النتائج من المقدمات، أي أن العقل له القدرة على الانتقال من بعض الأسباب والظواهر الحسية لإثبات حقائق أخرى غير منظورة حسياً، وبالتالي كما للعقل القدرة على الإحاطة علماً بما هو حسي وشهودي، له القدرة أيضاً على العبور من الشهود إلى الغيب، وإذا كان العقل في ما هو مادة يحتاج إلى التجربة والمختبر، فهو في ما هو غير مادي يحتاج إلى البرهنة والاستنتاج والاستنباط، والعقل الذي يثق في نتيجة التجربة إذا اكتملت شروطها الطبيعية، هو ذاته العقل الذي يثق في الاستنباط والاستنتاج والبرهنة إذا اكتملت شروطها العقلانية. وإذا كان نظام التصديق في الأمور الحسية هو المطابقة مع الواقع، فإن نظام التصديق بالحقائق غير الحسية هو مطابقتها بما أودع في فطرة الإنسان من حقائق؛ وهذه الحقائق الفطرية لها من الوضوح والظهور أكثر مما للحس من ظهور، فمثلاً البديهيات التي يعتمد عليها العقل التجريبي نجدها أكثر ظهوراً من نتائج التجربة الحسية نفسها، وإذا اعترف الإنسان بهذه البديهيات فمن السهل عليه الاعتراف بوجود فطرة تمثل أصول الحقائق الغيبية، يقول عزمي بشارة: "فهل هناك بنية ذهنية تزرع في العالم شعور الإنسان باللامحدود واللانهائي والكلي القدرة والعظيم والمرهوب، وتجعل هذه كلها شعوراً غامضاً بالقداسة؟ ربما توجد مثل هذه البنية في العواطف الإنسانية، لم لا؟ الواضح أن افتراض وجودها يفسر الكثير"[1] ومن هنا كان تحجيم التفكير الإنساني في إطار ضيق هو الذي يضيع على المعرفة الإنسانية كثيراً من الحقائق.
وما يجده الإنسان من إحساس وجودي، وما يشعر به من إلحاح داخلي يجعله مضطراً للبحث عمن أوجده، كما أن حاجة الإنسان إلى الكمال من جهة وتطلعه إلى مصير الحياة ومستقبلها المجهول من جهة ثالثة، يحتم عليه التطلع إلى الغيب والبحث خارج حدود المادة، وهذا النوع من الوعي المتسامي عن المادة والمترفع عن الحس، يمثل جانب الإشراق في الإنسان..
وعليه فإن أبجديات التفكير العقلي تقود الإنسان وفي أول مراحل تفكيره؛ إلى السؤال عن علل الأشياء وغاياتها، وهو سؤال العقل الأول؛ بل العقل ليس شيئاً آخر غير هذا السؤال، فكون الإنسان عاقلاً هو معنىً آخر لكون الإنسان متسائلاً عن فلسفة الأشياء وغاياتها، والذي يكتفي بالأجوبة الحسية يتغافل عن كون الأسئلة في شقها الأكبر غير حسية، فالسؤال عن العلة لا يقف عند حدود العلة المباشرة وإنما يتجاوزها حتى يصل إلى العلة الأولى، والسؤال عن الغاية لا يقف عند الغاية المحسوسة؛ لأنها لا تشبع طموح الإنسان وتطلعه.
يقول الفيلسوف ريتشارد سوينبرن في مقام توضيح ما يقوم به الدين تكميلاً للعلم: "عندما أتحدث عن الإله، فإنني لا أطرح إلهاً ليسد الثغرات التي لم يجب عنها العلم حتى الآن، فأنا لا أنكر قدرة العلم على استكمال التفسير. ولكنني أطرح الوجود الإلهي لأفسر لماذا صار العالم قادراً على التفسير؟"[2]
فحبس العقل في حدود الحس جريمة في حق العقل وفي حق الإنسان، فقيمة العقل في إدراك عمق الحياة لا في معرفة ظاهرها، وقيمة الإنسان بأن يعيش في ذلك العمق لا في ظاهر السطح، والغيب ليس شيئاً آخر غير عمق الحقيقة ولب المعنى.
الهوامش:
[1] - العلمانية والدين، عزمي بشارة، ص 251
[2] - دكتور عمرو شريف، خرافة الالحاد، مكتبة الشروق الدولية، مصر الجديدة ، ص 70