كيف نتعامل مع الخصومة والمتخاصمين
إنه لمن الضروري أن يتعلم الإنسان فقه الخصام- وخاصة مع المؤمنين- كي يحسن التصرف إذا ابتلي بمثل هذه الحالة؛ دون أن يقع فيما يغضب الله تعالى من المنكرات القولية أو الفعلية المتعارفة في هذا المجال، مما يجره للوقوع في الدواهي العظمى!
ماهي مناشيء الخصومة؟
- اختلاف الأمزجة: إن من آيات الله عزوجل أنه خلق الناس على هيئات وأمزجة مختلفة، قال تعالى: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا)، وورد في الحديث عن الرسول (ص): (الناس معادن، كمعادن الذهب والفضة). فالاختلاف بين الناس سنة طبيعية من سنن الله عزوجل. لكل إنسان قوامه الخاص المغاير عن الآخر، حتى التوائم المتشابهة نلاحظ بأن التشابه يكون في الشكل فقط، وأما الشخصيات فإنها متعددة. فبعض الناس تغلب عليهم الحدة، والبعض الآخر يغلب عليهم الهدوء، وبعض الناس تغلب عليهم العجلة، والبعض الآخر تغلب عليهم الأناة. ولاشك أن التعامل مع الناس بهذه الأمزجة المختلفة، يوجب شيئاً من الخصومة. ونحن قلنا للزوجين السعيدين: أنه مثل الرجل والمرأة، ليس كمثل فلقتي تفاحة مثلاً، بحيث أن أحدهما يكمل الآخر تماماً. فالأمر ليس كذلك، هنالك فاكهتان: هذه فاكهة، وهذه فاكهة أخرى، ويلتقيان مع بعضهما البعض. ومن هنا عليهما أن يوطنا أنفسهما على نقاط الاختلاف، وقد تكون كثيرة.
وعليه، فإن من الخطأ أن ينظر الإنسان إلى المجتمع على أنه مزاج واحد، أو أن ينظر الإنسان إلى المجتمع ويلزمه بمزاجه.
كما نرى عند بعض الناس: كالأزواج أو الآباء أو أرباب العمل، من الذين لهم السلطة في دائرة حياتهم، إذ يجعلون وكأن مزاجهم هو الصحيح، وهو الذي ينبغي أن يمشي عليه الجميع! ومن هنا تبدأ المخالفة، والمخالفة تنشأ وتتحول إلى اختلاف، والاختلاف يتفاقم ليتحول إلى خلاف عميق، ومن ثم الخصومة، وما أدراك ما تبعات الخصومة؟!.
- اختلاف العقائد والرؤى والأفكار: إننا لا يمكن أن ننكر أن الإنسان يعيش في هذه الدنيا ضمن مجتمع، تتعدد فيه المعتقدات والأفكار، وأنه يعيش مع قوم لا يلتقون معه في أصل الدين، وفي أصل قبول المبدأ والمعاد، ويلتقي مع أناس لا يتفقون معه في طريقة فهمهم للشريعة المقدسة، ويلتقي مع أناس يقلدون من لا يرون مبدأً فقهياً معيناً… ومن هنا فإن الذي لا يتأقلم مع المخالفين له في الرأي، والذي لا يتقن فقه التعامل معهم؛ فإنه من الطبيعي أن يقع في سلبيات الخصومة.
ما هي سلبيات الخصومة؟
- التشويش الباطني: إن الإنسان الذي يعيش جو الخصومة، إنسان: متوتر، وموزع الفكر، وسريع الإثارة والاستثارة، ولا يملك التركيز الذهني للعمل الفكري الجاد، وحتى نومه نوم مضطرب، ويعيش الأرق والقلق، إنسان مكتئب، ومعقد، وتجتمع فيه الكثير من خصال الشر. ولهذا يقول الإمام الصادق (ع): (إياكم والخصومة في الدين؛ فإنها تشغل القلب عن ذكر الله عزوجل، وتورث النفاق، وتكسب الضغائن، وتستجيز الكذب).
إن البعض يعيش حالة من العصبية العقائدية، ويظن أن التعصب لدينه ولفكرته، مما قد يروج الفكرة. والحال أن هذا الأمر أمر خاطئ!
إن نقل المعلومات من الذهن إلى الذهن، يحتاج إلى عمليات معقدة، والأمر ليس من باب كن فيكون! الأفكار والرؤى ليست عبارة عن كتلة مادية، تنقلها من ذهنك إلى ذهن الطرف المقابل! هنالك مجموعة قناعات ومبادئ في ذهن الطرف المقابل، لابد أن تغسل هذه القناعات غسيلاً علمياً، لتلفت نظره إلى المقدمات الباطلة، التي أوجبت النتيجة الباطلة. ومعنى ذلك، أن الخصومة بأي عنوان كان، هي خصومة باطلة. ولقد ورد في روايات أهل البيت (ع) نهي عن المراء، ولو كان الإنسان محقاً؛ لما يترتب على ذلك من تفشي العداوات والأحقاد. قال النبي (ص): (أنا زعيمٌ ببيت في ربض (أي أسفل) الجنة، وبيت في وسط الجنة، وبيت في أعلى الجنة: لمن ترك المراء وإن كان محقا، ولمن ترك الكذب وإن كان هازلاً، ولمن حسن خُلقه).
وأيضاً -كما في حديث الإمام (ع)- إن الإنسان المؤمن له حالة من الحساسية الزائدة، تجاه كل شيء يشغله عن الله عزوجل، فيخاف من أي شيء يشغله عن الله عزوجل، كخوفه من الشبح. ولهذا فإن من أدعية المؤمن قوله: اللهم اقطع عني كل شيء يقطعني عنك! وفي دعاء مكارم الأخلاق يقول إمامنا السجاد (ع): (وَعَمِّرْني ما كانَ عُمْري بِذْلَةً في طاعَتِك. فَإذا كانَ عُمْري مَرْتَعاً لِلشَّيْطانِ، فَاقْبِضْني إليك!). إن الإنسان المؤمن يدعو على نفسه بالموت، إذا كانت حياته حياة غير مثمرة في طاعة الله عزوجل، ومقدمة لإغواء الشيطان اللعين؛ لأنه لا يرى نفعا من هذه الحياة إذا كانت تزيده ذنباً إلى ذنب!
ومثل القلب كمثل الكأس إذا ما ملأته بالماء، أو بأي سائل آخر؛ فإنه سيملأ بالهواء؛ إذ لابد من أحد الأمرين: إما الهواء، وإما السائل. والقلب كذلك لابد أن يملأ: إما بالهوى، وإما بالهدى. إذا ما ملأت القلب بذكر الله عزوجل، فإن النتيجة الطبيعية هي امتلاؤه بوسوسة الشيطان. والقرآن الكريم يشير في هذا الآية: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ) إلى هذه الحقيقة، فليس هنالك حالة وسطية، فإما الحق، أو الضلال. فالقلب إما أن يكون مرتعاً للشيطان، وإما أن يكون مهبطاً لأنوار الرحمن.
إنه لمن المناسب أن يراقب الإنسان نفسه، وهو في حالة الخصام والغضب، بأن يعيش حالة من الاثنينية، وهو ينظر إلى شكله في المرآة، ويقيّم هذا الشخص الذي يراه على أنه إنسان آخر، ويحكم على تصرفاته وشكله، ليرى كيف أن الشيطان يتمثل في صورته! وكذلك يراقب باطنه، بأن ينظر إلى دواعي هذه الخصومة، وهل أنها رحمانية أو غير رحمانية.
- تجر للعداوة والانتقام: قلنا إن الخصومة تبدأ بخلاف مزاجي، أو بخلاف فكري، أو بخلاف مرحلي؛ ثم تتحول إلى عداوة، وميل للانتقام من الطرف المقابل. وبذلك ينفتح الباب للانتقام بالقول وتوابعه: من الغيبة، والبهتان، والنميمة، والإسقاط، وما شابه ذلك. وإذا أمكنه أن يتعدى عليه باليد، أو أن يزيله من الوجود، فإنه يعمل ذلك. كما رأينا في قصة قابيل وهابيل، فهما ولدا نبي من أنبياء الله عزوجل. وفي ذلك الزمان لم يكن هنالك حالة تزاحم للموارد البشرية، فهذه الأرض بخيراتها وبركاتها من الشرق إلى الغرب، متاحة لمجموعة قليلة من البشر. ولكن لننظر كيف بلغت هذه الخصومة اللاواعية، الخصومة غير المبررة، إلى أن يمد يده لقتل أخيه، ليرتكب أولى أعظم جريمة في حياة البشرية! وذلك لأن الله عزوجل تقبل قربان أخيه، ولم يتقبل قربانه.
ومن المناسب هنا أن نشير إلى نكتة أخلاقية ونفسية مهمة جداً:
إن منشأ الخصومة والعداوة والمواقف السلبية، ليس منصباً على الشخص الخارجي. فإن الشخص الذي في الخارج، له صفاته التي يعلمها الله عزوجل؛ بينما نحن نتعامل مع الخارج من خلال الصورة الذهنية المختزنة في أذهاننا. نحن في عالم التفكير وفي عالم النفس وفي عالم الباطن، لدينا ملفات لكل البشر. فكل من نتعامل معه -قريباً أو بعيداً، رجالاً أو نساءً- لكلٍ ملفه وصورته في الذهن، وهذه الصورة تستمد موادها الأولية من أين؟
قسم منه من الواقع: فمثلاً: إنسان نراه يحسن إلى الفقراء، فنأخذ عنه صورة في الذهن على أنه إنسان كريم. ولكنّ قسما من هذه المكونات لهذه الصورة، تأتي من عالم الوهم ومن عالم الخيال، ولا مبرر له.
فمثلاً: إنسان يحمل انطباع عنك أنك إنسان بخيل، وهو لم يعاشرك، ولم يجاورك، ولم يتعامل معك. ومن المعلوم أن من أساليب الكشف: المجاورة، أو المعاملة، أو السفر. ومع ذلك يرسم في صدره وفي نفسه صورة قاتمة عنك، من دون أي مبرر! وهذا الذي يعبر عنه بسوء الظن، واتّباع غير العلم في تقييم الأمور.
فإذن، إن الإنسان يخاصم لأنه يحمل في صدره صورة للأشخاص غير مطابقة للواقع، فيخاصم تلك الصورة. ولأن هذه الصورة لها نسبة مع الطرف في الخارج، فإنه يصب الغضب على الطرف الذي يعيش معه. ومن هنا علينا أن نعيد النظر في هذه الصور وفي هذه التقييمات. نحن لا ننظر بنور الله عزوجل. فالذي ينظر بنور الله، لا يخاصم. والذي يخاصم، لا ينظر بنور الله عزوجل.
معنى ذلك؛ أنه علينا أن نعيش حالة الموضوعية والنزاهة في تقييم الأشخاص.
ولهذا فإن من المناسب أن نطلب من الله عزوجل، كما في الدعاء: (اللهم أرنا الأشياء كما هي)!. فإذا رأى الإنسان الناس كما هم، فهل يخاصم أحداً عندما يضع كل شخص في موضعه؟ نحن نعلم أنه ليس هنالك فرد في عالم الوجود كالنبي المصطفى (ص)، الذي كان يرى واقع الأمور بما أعطاه الله عزوجل، وبما كشف له، وبما أراه الله عزوجل. ومع ذلك فقد كان يستر على من معه من قومه، كان يعلم الباطل الذي يعيشون فيه، ويعلم المنافقين، ومع ذلك لا يؤمر بأن يكشف أسرار العباد، وكان يتعامل معهم، وكأنهم على ما هم عليه من الإسلام الظاهري.
- نفور الناس منه: إن الإنسان المخاصم يتحول إلى وجود بغيض، وثقيل، والناس تفر منه، وحتى من يعاشره، فإنه يعاشره على مضض. مثلا: الأب المخاصم -الأب حاد المزاج- إنما يتحمل مادام يدر المادة على عائلته، وإلا الناس تنفض من حوله.
وإذا صار كذلك، فإنه سيفقد جوه الاجتماعي، مما يدفعه إلى التقوقع والابتلاء بمصائب الطرد الاجتماعي. ومن المعلوم أن المؤمن يحتاج إلى وسط اجتماعي، إذ (لا خير فيمن لا يألف، ولا يؤلف). والإنسان مدني بطبعه، يريد أن يغير الجو الذي كان يعيش فيه. فهذا نبي الرحمة (ص) عندما كان يرجع من أذى المشركين، كان يرتاح إلى جوار سيدتنا أم المؤمنين خديجة (ص)، فقد كانت سكناً للنبي المصطفى (ص)، بمعنى من معاني السكن.
- انكشاف العورات الباطنية: إن لكل منا عيوبه وخبائثه التي ستر الله عزوجل عليها. ومن هنا ورد: (لو تكاشفتم لما تدافنتم): أي لو كشف لكم أسرار الخلق، وما هم فيه من الواقع الذي لا ينسجم مع الظاهر، ما دفنتم من يموت منكم! إن كل فرد -ما عدا المعصوم- ظاهره خير من باطنه. لأن الإنسان يتكلف للغير، ويتصنع الذكر الجميل، ولكن يعلم الله عزوجل ما يغلي في باطنه من الجحيم: جحيم الحقد والبغضاء، والحسد والتعالي والتكبر وما شابه.
إن الله عزوجل كان بإمكانه أن يجعل جبين الإنسان كشاشة تلفزيون، يكشف ما في الباطن، وكلما يهم الإنسان بالسيئة، يكتب على جبينه. أو أن الإنسان الذي يعيش الحقد والحسد مثلاً، يظهر شيء في بدنه، يكشف ذلك؛ كحمرة الخجل، وصفرة الوجل. فالإنسان الخجول يبدو على منظره، حيث جعل الله عزوجل الحمرة علامة. والإنسان المصاب بالحمى، ترتفع درجة حرارته. لو أن الله عزوجل جعل علامات بدنية لسيئات الإنسان الباطنية- فمثلاً: إنسان يذنب اليوم، فيسود وجهه-؛ لما بقي أحد إلا وقد كشف غطاؤه!
فإذن، إن رب العزة والجلال ستر على الإنسان، فلم يكشف عورته لأحد. وقد ورد في رواية حديث كاشف عن شدة الرأفة الإلهية، ومضمون الرواية: أن لكل إنسان مثال في العرش، يعمل بحركاته في الدنيا، والملائكة تنظر إلى ذلك المثال. فإذا أراد أن يهم العبد بالسيئة، يغطي ذلك المثال؛ لئلا يبتلى بالفضيحة، وهو في الدنيا قبل الآخرة! عن الصادق (ع) أنه قال: (ما من مؤمن إلا وله مثال في العرش، فإذا اشتغل بالركوع والسجود ونحوهما فعل مثاله مثل فعله، فعند ذلك تراه الملائكة فيصلون ويستغفرون له. وإذا اشتغل العبد بمعصية، أرخى الله على مثاله ستراً، لئلا تطلع الملائكة عليها).
ومن أدعيتنا في الدنيا أننا نقول: (اللهم! لا تفضحني على رؤوس الأشهاد). ففي يوم القيامة الإنسان يمكن أن يحاكم محاكمة سرية، ويؤخذ به إلى النار، ثم يعفى عنه. ولكن من الممكن أيضاً أن يكشف الغطاء عن الإنسان، في محضر الأنبياء والأوصياء والمؤمنين؛ وعندئذ فكم ينتاب الإنسان الخجل، عندما يراه النبي (ص) ويلومه على كونه من أمته؟!
يقول الإمام أمير المؤمنين (ص): (من بالغ في الخصومة ظلم، ومن قصّر ظلم، ولا يستطيع أن يتقي الله من يخاصم). فإذا دخلت عالم الخصومة واللجاجة والعناد والمشاكسة، فقل للتقوى: وداعاً! إذ كيف تتقي، وأنت تعيش حالة الخصومة؟ إن الإنسان المخاصم، لا يستطيع أن يكون متقياً. وفي قول آخر عنه (ع): (المخاصمة تبدي سفه الرجل، ولا تزيد في حقّه).
- خسران الكمالات: إن الشيطان يدع الإنسان يغلي ويغلي، ويفور ويفور، إلى أن يقع في الجريمة العظمى! يجعل السيئات تتراكم عليه إلى أن يقوم بعمل من الأعمال وإن كان صغيراً، فيهوي به أبعد من الثريا!. قال رسول الله (ص): (إنّ الرجل يتكلّم بالكلمة يُضحك بها الناس، يهوي بها أبعد من الثريا). وقد يكون إنسان قاب قوسين أو أدنى من بعض صور الكمال، وإذا بمعصية من المعاصي تجعله يتسافل ويتسافل، فيسقط من أعلى عليين إلى أسفل سافلين! يقول إمامنا الباقر (ع): (يا زياد! إياك والخصومات؛ فإنها تورث الشك، وتحبط العمل، وتردي صاحبها، وعسى أن يتكلم الرجل بالشيء لا يُغفر له). أي أن الإنسان قد يذنب ويذنب، فيغفر له في ذنب وفي ذنبين، إلى أن يصل إلى درجة، أنه يتكلم بكلمة، ولا يغفر له.
فعلى الإنسان أن ينتبه لهذه المزالق الكبرى! كما أن هنالك طفرات ونفحات في عالم الكمال والقرب -في عالم الإيجاب- هناك تسافلات أيضاً في عالم البعد عن الله عزوجل. فالإنسان في لحظة من اللحظات، من الممكن أن يتسافل أضعاف ما تسافل به في سنوات من عمره! فلعله في موقف من المواقف يقول كلمة، ويكسر بها مؤمناً، وقد ورد بأن: (من كسر مؤمناً، فعليه جبره)! وفي مضمون آخر: إن الله عزوجل بالمرصاد لمن حارب أخاه المؤمن، ولمن أذله بكلمة!
ثم إن الإنسان قد لا يوفق دائماً للجبر بعد الكسر. وقد لا يوفق دائماً لكي يعوض ما عمل في سالف أيامه. بالإضافة إلى أن الإنسان إذا استغفر فقد يغفر له، ولكن تبعات الذنوب كيف يعوضها؟ فمثلاً: إنسان أساء تربية أولاده سنوات، ودفعهم من دون شعور إلى عالم الفساد والرذيلة، وما أحسن رقابتهم، ففسدوا. فهو لما يقف في جوف الليل، ويغتسل غسل التوبة، ويصلي ركعتين لله عزوجل، ويستغفر سبعين مرة، ويبكي ويبكي وينوح إلى الله عزوجل، فإن الله عزوجل قد يغفر له. ولكن الولد ذهب من اليد، وأصبح في عداد الموتى في عالم الأرواح، وقع في عالم الرذيلة، فما الذي يعوض ذلك؟
فإذن، إن المشكلة ليست في المغفرة، وإنما المشكلة في تدارك الخسائر الكبرى التي يمنى بها الإنسان. بمثابة إنسان كان في كنف رجل كريم، فأساء معاشرته وأساء وأساء، إلى أن طرده من منزله غافراً له، ثم أصبح يهيم على وجهه. صحيح، ليس هنالك تبعة بينه وبين مولاه الكريم، ولكنه بقي مشرداً، لا يأوي إلى مكان، وهنا المصيبة!
ما هوعلاج الخصومة؟
- عدم التمادي في إظهار الغضب: إن بعض الخصومات -وخاصة عند المؤمنين- قد يكون لها وجه، ولها منشأ فكري، أو سلوكي. فإذا كان الأمر كذلك، فعليه أن يغضب بمقدار ما غضب الله تعالى لنفسه؛ ومن غضب لله عزوجل، انتصر الله تعالى له.
إن النبي (ص) مع أنه رمز الموادعة، ورمز السلم، وقد كان المسلمون يدخلون إلى حلقة المسلمين، فلا يكادون يميزون رسول الله (ص)، وينادونه باسمه الشريف، لا بوصف الرسالة؛ إلا إنه إذا غضب النبي (ص)؛ فإنه لا يقوم لغضبه شيء! بل إذا (قال: ما بال أقوام…)، أو إذا أدار بوجهه عن الرجل، عرف الغضب من النبي المصطفى (ص). وكان ذلك مدعاة لتغيير السلوك والجوهر. والمؤمن هكذا. ولهذا يقال: (اتقوا غضب الحليم إذا غضب)! لأن الحليم إذا غضب؛ فإن غضبه يؤثر في واقع الأمور، وذلك بخلاف من يغضب لكل صغيرة وكبيرة.
- التفكير في النتيجة: إن كثيراً من هذه الخصومات، وكثيراً من هذا الغضب الذي نصبه على بني آدم -وخاصة على المستضعفين، من الرجال والنساء والولدان- منشأه التنفيس، وأنه يريد أن ينتقم، ويريد أن يتكلم بما في قلبه. ألا تريد الإصلاح؟ فإذا كنت تريد الإصلاح، فليس هذا هو السبيل! أنت تعلم أنك في حال الخصومة والغضب، تفسد أكثر مما تصلح، وأنك تسيء للفكرة؟ ففكرتك جيدة، وكلامك حق، ولكن أسلوبك في الكلام، يضيع الحق الذي كان لك!
ومن المعلوم بأن المؤمن -أحياناً- يأخذ حقه ببعض صور التظلم. إن أمير المؤمنين وأولاده المعصومين (ع)، لماذا كسبوا هذا الذكر الجميل الخالد إلى يوم القيامة؟ لأنهم ظهروا بمظهر المظلومية بين الخلق، لأنهم بينوا ظلامتهم للعالمين. ومن هنا تغلغلوا في النفوس التي تستحق أن تكون محبة لهذه الذوات المقدسة.