قال صاحب كتاب «اللّه والانسان» ص 108: «إن الأديان تمر بمرحلة انهيار تشبه المرحلة التي مرت بها ديانة الإغريق، وهناك صفحة ثانية في طريقها لأن تطوى. والسبب هو نفس السبب في الحالين.. هو العلم وتطور الوعي وظهور المعارف الجديدة».
يفترض هذا القائل أن جميع الديانات حتى الإسلام جهل وخرافة تماما كديانة الإغريق، والنتيجة الحتمية لهذا الافتراض أنه كلما تقدمت العلوم تأخرت الأديان. فالمقدمة بديهية، والنتيجة طبيعية!.
ذكرني هذا القول بمنطق السفسطائيين وأقيستهم الماجنة. رأى سفسطائي شابا، فقال له: هل تحب أن أبرهن لك بالعقل على أنك حمار؟
قال الشاب: تفضل واتحف السمع.
قال السفسطائي للشاب: أنا لست أنت، أليس كذلك؟
الشاب: أجل، أنت غيري؛ وأنا غيرك.
السفسطائي: وأنا لست حمارا.
الشاب: بكل تأكيد، ان الحمار يمشي على أربع، وأنت تمشي على رجلين.
السفسطائي، وقد امتلأ سرورا بهذا الانتصار: اذن أنت حمار.
ولا فرق بين هذا القياس، وبين تشبيه الإسلام - مثلا - بديانة الإغريق. لقد قضى العلم على عقيدة الإغريقيين، لأنهم عبدوا أعضاء التناسل والنبات والحيوان والإنسان، وارتكب بعض آلهتهم، وهو زيوس، أسوأ العيوب وأقبح الجرائم، فقتل أباه وضاجع بنته، وطارد العرائس وغازل البنات.
أما الإسلام فقد حارب الوثنية بشتى ألوانها، وبكل وسيلة، ودعا إلى الفضيلة ومكارم الأخلاق، وحث على العلم، وأثنى على الراسخين به. وذم التقليد وشبّه الجهل بظلمات بعضها فوق بعض، والجاهل بالميت، وبالأعمى الأصم الأبكم: وهل يرفع العدو من شأن عدوه؟! وهل يقضي العلم على دين يقوم على أساس الحق والعدل، ويقول:
«يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ»؟! وهل ينكر العلم نبوة من قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. أتيتكم بالشريعة السهلة السمحة» ! وهل يحارب العلم دينا يخرج الناس من العبودية إلى الحرية، ومن الجهل إلى العلم، ومن الفقر إلى الغنى؟! ولو صح قول هذا الكاتب بأن العلم إذا تقدم تأخر الدين لكان العلم عدو نفسه. والحقيقة أن العدو الأول للعلم هو الذي يتكلم عن الدين والعلم بلا دين ولا علم. فلقد تحدث الكاتب عن الأديان، وهو لا يعلم عنها إلا أن ديانة الإغريق قد زالت من الوجود، وإذا زالت هذه من الوجود فلا بد أن تزول جميع الأديان، ومنها الإسلام! ألا يشبه قوله هذا قول السفسطائيين الذين يلغون بالتهريج والتضليل، ويتلهون بالمغالطات والسخافات!
وربما اعتذر معتذر عن الكاتب بأنه لم يتعرض للإسلام، وإنما قال إن الأديان تمر بمرحلة انهيار.
قلت: إن تركه لذكر الإسلام، وعدم استثنائه من الأديان دليل واضح على أنه لا يفرق بين الإسلام وسائر الأديان التي تسير في طريق الزوال والانهيار
لقد أكثر القرآن من الحث على طلب العلم «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً».
وأوجبه الرسول الأعظم على الذكور والإناث: «العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة» وأمر بإرسال البعثات العلمية: «اطلبوا العلم ولو بالصين».
وقال الإمام علي بن أبي طالب: «العلم دين يدان به. أعلم الناس من جمع علوم الناس إلى علمه».
وهذه دعوة صريحة إلى التعاون الثقافي بين الأمم والشعوب، بل إلى توحيد التربية والتعليم الذي هو أساس التآلف والتكاتف. فرب شعبين أو أخوين تباعدا، لأن أحدهما يتخبط في ظلمات الجهل، والآخر يهتدي بنور العلم، أو لأن كلا منهما جاهل بما عند الآخر، أو يتجه بمعارفه وجهة معاكسة، فإذا تعاهدا على التعاون الثقافي تم بينهما التقارب، وأصبح كل منهما قوة لأخيه.
أمر الإسلام اتباعه ان يجمعوا علوم الناس إلى علومهم ليسيروا في طليعة الأمم، وليزدادوا يقينا بعقيدتهم، ودعا أهل الأديان الأخرى ان يتدبروا كل حكم من أحكامه، وكل آية من آياته «أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» ليتأكدوا أنه دين العقل والعدل: «وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ». أجل، لقد رأى العلماء بعد أن تقدمت معارفهم أن في القرآن أسرارا لا تفسر إلا بصدق الإسلام وعظمة المبدع وقد تجاوزت الآيات الواردة في وصف الكون حد الإحصاء نذكر بعضها على سبيل المثال.
فقد جاء في الآية 38 يس: «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ». وكان العلم إلى عهد قريب يرى أن الشمس ثابتة، ولما تقدمت العلوم الرياضية وآلات الرصد اكتشف ما نطق به القرآن الكريم منذ أكثر من 13 قرنا من أنها تجري لمستقر وهذا المستقر نجمة تدعى بالنسر الواقع على شكل لولبي.
وجاء في الآية 49 الذاريات: «وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ». اكتشف العلم الحديث ان الزوجية متأصلة في كل شيء حتى أن الذرة مركبة من الألكترون والبروتون كهربائية سالبية، وأخرى موجبة، وأن جميع ما في الكون من حيوان ونبات وإنسان وجد بصورة زوجية، فمن أوجد هذا الازدواج، هل الصدفة أو قوة عظيمة حكيمة تسيطر على الكون بمن فيه وما فيه؟
وجاء في الآية 14 فاطر: «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا، وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ» تشير الآية الكريمة إلى أن الجاذبية ليست بين الأرض وما عليها فقط، بل بينها وبين ما عداها من الكواكب أيضا، وأن كل كوكب يجذب كل كوكب بقوة متناسبة. ولو أن العلماء درسوا القرآن بإمعان، وتدبروا ما أشار اليه من حقائق، ووضعوا تصاميمهم على أساسها لتكشفت لهم هذه الحقائق بوضوح من خلال دراستهم ومختبراتهم، ولتوفر عليهم الكثير من الوقت والجهد، وللّه در ابن عباس حيث قال: « في القرآن معان سوف يفسرها الزمن » وهذي المعاني هي اسرار الكون التي تكشفت للعلماء يوما بعد يوم.
أين تلقى محمد (ص) هذه الدروس! وعمن أخذ نظرية الجاذبية، والتزاوج، وعلم الفلك، وغير ذلك مما عجز عن إدراكه كبار المخترعين، وعظماء المكتشفين! وهل كان لديه آلات ومختبرات، أو أن كل ذلك وجد صدفة، ونزل الوحي به على قلب العربي الأمي صدفة!
ثم نود أن نوجه إلى مصطفى محمود هذا التساؤل:
لقد حكمت دون تردد بأن الأديان تمر بمرحلة انهيار وبديهة أن الحكم في قضية ما يستدعي العلم بطرفيها، فهل أحطت بجميع أسرار الكون، وتتبعتها واحدا واحدا، ثم استقرأت الأديان والآيات القرآنية والأحاديث النبوية بكاملها، وبعد أن شاهدت وجربت رأيت أن الدين والعلم ضدان لا يجتمعان، وعدوان لا يتفقان! ثم إنك أشدت بفضل العلم وعظمته، لكنك في نفس الوقت شننت الحملات على دين يدعم العلم، ويؤازره العقل، ويحث أتباعه والناس أجمعين على البحث والنظر والتأمل والتفكير، فكيف جمعت بين الضدين! وعلى أي شيء يدل هذا التضارب والتناقض! هل يدل على «العلم وتطور الوعي!». وإذا كان الدين جهلا وخرافة يتأخر كلما تقدم العلم، فبماذا تفسر - يا أستاذ - تقدم العرب بعد الإسلام وتحولهم من جاهلية جهلاء إلى حضارة أدهشت العالم، وقلبته رأسا على عقب، مما جعلتهم يدعون بجدارة آباء العلم الحديث، كما قال نهر رئيس وزراء الهند!
ان الإسلام لن يزول ولن ينهار، لأنه حق «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه». ولأنه واقع «لا يعلم تأويله إلا اللّه والراسخون في العلم». أما الذي ينهار إلى غير رجعة فهو الذي يقول بغير علم ويعتقد قبل أن يتصور إن صح التعبير.
وبالتالي، فمهما تقدم العلم وتطور الوعي فان الإسلام أرحب وأوسع من أن يضيق به. إن عظمة الإسلام لا تظهر إلا بالعلم ومن هنا لم ينكر هذه العظمة إلا جاهل أو مكابر.
المصدر: كتاب الإسلام والعقل