تثير وسائل الإعلام منذ زمن بعيد إلى يومنا هذا شبهات في القوانين الجزائية للإسلام، ولم تزل الفضائيات وإلى جانبها مواقع التواصل الاجتماعي تروّج تلك الشبهات، وتجترّها يوماً بعد يوم، وما ذلك إلاّ لزعزعة إيمان الشباب بالإسلام، ومنها حكم الاسلام بقتل "المرتد" باعتبار مخالفة هذا الحكم لقواعد العدل ولقوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)[1]، ونقف هنا في هذا المقال على حقيقة السبب الذي لأجله يقتل المرتد عن دينه.
الأنظمة العالمية على قسمين:
1- أنظمة قائمة على أُسس مادية، وقوانين اجتماعية مستمدة منها، ولا علاقة لها بالدين، وما وراء الطبيعة، ومثالها الأنظمة السائدة في الغرب، فإنّ اللازم على كلّ مواطن في تلك البلدان، هو العمل على وفق القوانين السائدة فيها، من دون أن يكون للدين والعقيدة، تأثير في تلك الأنظمة، ومن ثم فلو تحول المواطن المسيحي إلى بوذيّ، مثلاً، أو تحوّل البوذي إلى مسيحي، لا يكون مؤثراً في النظام ولا في استقرار المجتمع; لأنّ أعمدة النظام، هي تلك الأُسس المادية الّتي يقوم عليها النظام، وهي معزولة عن أي فكر ديني أو عقيدة إلهية.
2- أنظمة قائمة على أُسس دينية وعقائد إلهية، مرتبطة بما وراء الطبيعة، ففي هذه الأنظمة، يُعدّ اعتقاد المواطن بالدين وأحكامه، ركناً ركيناً في حفظ النظام، كما أنّ الخروج عن العقيدة، والتظاهر به، يعدّ خروجاً على أصل النظام، خصوصاً إذا أعلن المرتدّ عن فكرته، وفي المجتمع ضعفاء العقول سمّاعون لكلّ صوت، ففي هذه الحالة، يعدّ الشخص محارباً للنظام، داعياً إلى نقضه وهدمه.
فهل يُتصوّر أن يمهل مدير النظام ورئيسه من يحاول إلغاء وجوده وسلب أثره عن المجتمع؟ كلا، ولا، ولذلك لا ترى في أي مجتمع ينادي بالحرية، يسمح لمواطن أن يعمد إلى خلخلة النظام، وتعكير أمن المجتمع، والّذي يشهد لذلك أنّ الجاسوس في عامّة الأنظمة، يعاقب بأشد العقوبات، وما ذلك إلاّ لأنّه يحارب النظام ويعاديه.
المرتد.. رافض لنظام الحكم
من هنا يتضح ان حكم الاسلام بوجوب قتل المرتد لرفضه النظام برمته خصوصاً وان الفقهاء اوقفوا هذا الحكم على رفع شبهة المرتد أي لا يجوز معاقبته الا بعد رفع الشبهة عنه وايضاح الحق بنحو لا يبقى معه مجال للإشكال، فلو كان الجواب ضعيفاً لا يرقى لحل الشبه لم يجز قتله، وقد يطول الأمر.
يقول الشيخ السبحاني في كتاب الحدود: "لو كان ارتداده عن طروء شبهة من أصدقائه وزملائه أو من وسائل الإعلام الّتي تبثّ الشبهات كلّ يوم وليلة، على رؤوس الشباب المسلمين، ففي هذا المجال يجب على الحاكم، قبل كلّ شيء، رفع الشبهة باستخدام العلماء الواعين، الواقفين على الشُّبه ورفعها، من غير فرق بين المرتدّ الفطري، والمرتدّ الملّي، والأصحاب وإن أحجموا عن لزوم رفع الشبهة عن المرتدّ الفطري، وإنّما أشاروا إليها في المرتدّ الملّي، ولكن الظاهر عدم الفرق بين المرتدّين ولزوم رفع الشبهة قبل الحكم عليه بالارتداد"[2].
وعن العلاّمة الحلّي: أنّه ـ أي المرتد ـ قال: "حلّوا شبهتي، احتُمل الإنظار إلى أن تحلّ شبهته وإلزامه التوبة في الحال، ثم يكشف له"[3].
يشرح الفاضل الأصفهاني قول العلامة: (حلّوا شبهتي احتمل الإنظار إلى أن تحلّ شبهته): لوجوبه، وكون التكليف بالإيمان مع الشبهة من التكليف بما لا يطاق[4].
ولأنّ الغاية، هي إرشاد المرتدّ إلى الحقّ المبين، وهو بحاجة إلى قطع جذور الشبهة، فإذا كان المرتدّ مستعداً لسماع الجواب ورفع الشبهة فلا مجال لقتله.
وعليه فاتضح اختصاص الحكم بمن اتضح عنده الحق من الضلال واختار سبيل العناد والجحود.
مرتد لا يقتل!
اضف الى ان حكم الاسلام بقتل الكافر يتوقف على جهره بذلك، أما إن كان بينه وبين ربه كفاه التوبة، يقول الشهيد الثاني: وهذا الحكم ]وجوب القتل[ بحسب الظاهر لا إشكال فيه، بمعنى تعيّن قتله. وأمّا فيما بينه وبين الله تعالى، فقبول توبته هو الوجه، وحينئذ فلو لم يطّلع عليه أحد، أو لم يُقدَر على قتله، أو تأخّر قتله وتاب، قُبلت توبته فيما بينه وبين الله تعالى[5].
[ذات صلة]
ضرورة توقف اثبات ردته على أمارات معتبرة تكفي في ثبوت هذا الجرم، لذا من أنكر ذلك ولم تكن هناك أمارة معتبرة ودليل ثابت يجرمه لم يحكم بردته، بل ولو ادّعى الإكراه مع وجود الأمارة، قُبل، كالأسير عند الكفّار، ترجيحاً لحقن الدمّ، واستصحاباً للإسلام، ودرء الحدود مع الشبهات. وأمّا مع عدم الأمارة، فلا يُقبل.
ماذا عن المرأة المرتدة؟
والأَولى أن يقال: إذا شهدت البيّنة على الردّة غير الإكراهية، لا يُقبل قول المرتدّ بأنّ ارتداده عن إكراه. نعم، إن شهدت البيّنة على صورة اللفظ الصادر منه، فيُقبل قول المرتدّ وإنّ لم يكن هناك أمارة. لاحتمال أنّ التكلّم بما يوجب الارتداد كان عن غير جدّ، والحدود تدرأ بالشبهات[6].
طبعاً هذه الأحكام مختصة بالرجل أما المرأة فلا يحكم الإسلام بقتلها أصلاً، وإنما تسجن ويضيق عليها.
والخلاصة: إن حكم قتل المرتد لا لجبره على الاسلام فيخالف الحكم الآية (لا إكراه في الدين)، وإنما لرفضه مجمل النظام القائم على أساس الإيمان بعقيدة التوحيد، ويؤيده ما حكم به الفقهاء من توقف تنفيذ الحكم على رفع الشبه عنه بنحو لا يبقى للالتزام بها مجال إلا العناد للحق، كما أن طريق ثبوت الردة بدون الجهر متعسر عادة.
[1] البقرة: 256.
[2] كتاب الحدود: ص448.
[3] قواعد الأحكام: 3 / 575 .
[4] كشف اللثام: 10 / 664 .
[5] مسالك الأفهام: 15 / 24.
[6] كتاب الحدود: ص443.