هل لباسنا ينطقنا؟
آلاء شمس الدين:
هل فكّرت يومًا لماذا اخترتَ هذا القميص المنقّط؟
أو لماذا قرّرت ارتداء بنطلون جينز ممزّق؟
وربما لم تختر لباسك أنت، بل هناك من قرّر عنك؛ فاختار لك نمط لباسك، وقال لك: هكذا تصير متحضّرًا! ولكن أيّ حضارة ينطقها سروال الجينز الممزّق؟
يشكّل اللباس جزءًا من صورتنا اليوميّة، وجزءًا من هويّتنا وثقافتنا، فنحن متأصّلون بما نختاره من نمط حياة. واللباس لا شأن له بالحرّيّة الشخصيّة؛ لأنّ الأصل فيه هو حماية جسد الإنسان، يقول الله تعالى في سورة الأعراف: "يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّـه لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ" (سورة الأعراف، الآية31)؛ تذكّر الآية الكريمة المرء بصفاته الآدميّة وكرامته عند الله، فالتشريع الإسلاميّ أمرنا بحسن المظهر؛ لأنّ الله يحرص على عبده أن يكون في أحسن صورة.
ولا يقتصر اللباس على كونه حماية للجسد، فقد بات جزءًا من مهارات التواصل مع المحيط، كما هو الحال في نبرة الصوت، وطريقة الكلام، وغيرها من المهارات الأساسيّة واللازمة في خطّة نجاح أيّ إنسان. طريقة اختيار اللباس تخبر شيئًا عنّا، ثمّة نظريّات نفسيّة تؤكّد أنّ اختيار ملابسَ وألوانًا معيّنة يعكس شخصيّات مختلفة. ويختلف اللباس بشكله وألوانه من بلد إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى، وذلك تبعًا للنمط الاجتماعيّ السائد؛ فنرى مثلًا أنّ الحجاب يعدّ جزءًا من ثقافة المرأة المسلمة وهويّتها، وله قيمة اجتماعيّة في حياتها؛ فالمرأة المحجّبة عندما تحضر في الجامعة، وتشارك في ميدان العمل أو في الأماكن العامّة؛ فإنّها تحضر بصفتها الإنسانيّة وليس بصفتها الأنثويّة.
ولمسألة الجمال أهميّتها في الإسلام، وتجميل الملبس هو ميل فطريّ، خاصّة عند الشباب؛ فمن منّا لا يرغب بالخروج بأفضل صورة؟
إنّ الاهتمام بالهندام ورد في روايات كثيرة، وكلّها تؤكّد على ضرورة اهتمام المرأة والرجل بمظهرهما، وقد وضع الله تعالى معايير محدّدة للحفاظ على مظهرنا وكرامتنا الإنسانيّة، فطهارة الملبس ونظافته إحدى أهمّ معايير اللباس في الإسلام. ومنح الله المرأة الحجاب لتستطيع خوض غمار الحياة بحرّيّة، دون أن تنتهك كرامتها. ولتكتمل صورتها الإنسانيّة قدّم لها الإسلام معايير للحجاب، حجابًا يستر البدن ولا يبرز مفاتن المرأة ولا زينتها. وخصّص الله تعالى لكلّ من الذكر والأنثى معايير محدّدة تحفظ وجودهما معًا في معترك الحياة، وتجعل الصفات الإنسانيّة هي التي تتحكّم بطبيعة العلاقة بينهما في المجتمع.
مَن يختار لباسنا؟
هل أنتَ مقتنع بما ترتديه؟ هل كنت حرًّا في اختيارك؟
وهنا بالتحديد أتكلّم عن حرّيّة اختيارنا لنمط لباسنا ومظهرنا. يعتقد الخبراء أنّ اختيار الشباب لموضة محدّدة دون غيرها يتجاوز رغبته وقناعته في ارتداء هذا النوع من اللباس، ويعتبرون أنّ تلك الرغبات نتيجة وليست سببًا في مسألة ولع الشباب بالموضة، ففي عصر ثقافة الصورة التي تسود العالم، وفي عصر وسائل التواصل الاجتماعيّ، أصبحت شركات الأزياء أكثر قدرة على الترويج لمنتجاتها وصراعاتها، واتخذت من الشباب فئة مستهدفة، فما أكثر الإعلانات والمواقع والصفحات على المنصّات الاجتماعيّة التي تعرض الجديد من كلّ موضة للشباب، وترغّبهم فيه، حتى أصبحت أخبار الموضة وعارضي الأزياء و ال “فاشينستا Fashionista” تنافس أكثر الأخبار الساخنة في العالم. وتعدّ الموضة الرقميّة أساسيّة في مجال تسويق الأزياء وزيادة المبيعات، وقد أصبحت محور إنتاج تأثيرات بصريّة، لخلق رغبات وقناعات جديدة لدى المستخدمين. فالصورة تؤثّر من الناحية النفسيّة لتشجيع الفرد على استهلاك المزيد من المستلزمات الجديدة والبضاعة، سعيًا وراء الرضى النفسيّ، أو التقبّل الاجتماعيّ، أو لمجرّد الرغبة في مجاراة الأصدقاء والمعارف والمشاهير.
الموضة هي العرف السائد أو نمط من اللباس والأدب، ومظهر يعبّر من خلاله المجتمع والأفراد عن فكرة أو للظهور بمظهر جيّد ومحبّب عند فئة من الناس. وتجمع الموضة بين جميع ثقافات العالم من الغرب إلى الشرق؛ فالموضة تعبّر عن فكرة أو عن ثقافة، وبما أنّ بلادنا العربيّة تستورد ثقافتها من الغرب، فإنّ اللباس الذي يأتي من الغرب لا يعبّر إلّا عن حضارتهم، أمّا نحن فإمّا أن نختار ما يرتدون فقط لأنّه من الغرب ونظنّ أنّنا بذلك نرتقي أو نقاوم لنحافظ على ثقافتنا العربيّة وهويّتنا الإسلاميّة.
وتمرّ دورة حياة الموضة في عدّة مراحل، فهناك من يعمل على تنسيق المنتجات المختلفة وتوحيدها لتشمل كلّ أنحاء العالم. بداية تقرّر شركات التنبّؤ بالألوان Color Forecasters، ومنها الجمعيّة الأمريكيّة للألوان فيما بينها مجموعة الألوان الأكثر رواجًا لكلّ موسم، ثم تعمّم هذه الألوان على مصانع الأقمشة والنسيج، وتتحكّم الأخيرة بنوعيّة الأقمشة والزخرفة التي ستصبح نمطًا رائجًا في الأسواق، بعد هذه المرحلة يأتي الدور إلى مصمّمي الأزياء، فمن خلالهم يبدأ الظهور الرسميّ للأنماط الرائجة في الموضة، عبر عروض الأزياء الكبرى في أوروبا والولايات المتّحدة الأمريكيّة. وخلف كواليس عروض الأزياء ثمّة فِرق عمل بحثيّة ضخمة تدرس سلوك المستهلكين والمزاج العامّ في الأسواق، وترفع نتائج أبحاثها للمصممين، وهذا العمل يأخذ وقتًا طويلًا قبل الظهور الرسميّ للتصاميم، وعلى سبيل المثال، فقد غَزَت الألوان الفاتحة من الورديّ والبنفسجيّ أزياء الرجال، وكذلك القمصان المزركشة والسراويل الممزّقة، بعد التشريع الرسميّ للمثليّة الجنسيّة في أوروبا وأميركا، وللمشاهير دور كبير في عمليّة الترويج للموضة؛ فكثير من الشباب يتطلّع إلى تقليد المشاهير بلباسهم ونمط حياتهم، ويكون الإعلام هو المحطّة الأخيرة في دورة حياة الموضة، فتعتبر وسائل الإعلام والمنصّات الاجتماعيّة من أهم محرّكات صناعة الموضة والترويج لها. أي أنّها صلة الوصل بين المشاهير وعامّة الناس والشباب، فماذا لو قرّرت وسائل الإعلام تجاهل نمط معيّن من الموضة؟ هل كان سيصبح رائجًا؟
اللباس هو نشاطٌ ثقافيّ، لغةٌ نقول بها للآخر “من نحن”، المهمّ هو أن نتكلّم، أن نقول “لا” لنمط يأتينا من الغرب وكأنّه مقدّس، ولأيّ نمط أو لأيّ فكرة لا تناسب حضارتنا وهويّتنا. إنّ هذه العمليّة التي تمرّ بها حركة الموضة ليست عبثيّة، في الحقيقة لا يوجد شيء عبثيّ في هذا العالم. الموضة التي تأتينا من الغرب، وُجدت للغرب، وتتطوّر كلّما تطوّرت رغبات الناس هناك، وتعود إلينا، دون أيّ اعتبار لرغباتنا نحن، تُفرض علينا لتضييع قيمنا الإسلاميّة.
أخيرًا، إنّ الحفاظ على نمط لباسنا كما نريد نحن، في عصر تهيمن عليه الثقافة الغربيّة يعدّ بحدّ ذاته مقاومةً؛ مقاومةٌ لشكل من أشكال الهيمنة الثقافيّة وسلب الهويّة، ونحن بمقاومتنا نستطيع إنتاج ثقافة ونمط حياة يُشبهنا.
مجلة مع الشباب