تنويه هام: النص مقتطع من أرشيف خطب الجمعة
هناك بعض الأشياء قد تكون أشياء فرديّة وضررُها يُقيّد بالفرد، وهناك أشياء تكون عامّة ولا شكّ أنّ الضرر سيتّسع وستبدأ مشاكل جمّة إذا انتشرت هذه الظاهرة، والإنسان عليه أن يكون صريحاً خصوصاً إذا تنبّأ وتوقّع أنّ بعض المشاكل قد تبدأ الآن صغيرة لكنّها قد تنمو وتكبر، والذي سيدفع الثمنَ الكثيرُ من الناس، حتّى الذي لا يرضى بهذا الفعل سيدفع الثمن، باعتبار أنّه غضَّ النظرَ أو سكَتَ أو لم يكترثْ أو كان بسيطاً أو ساذجاً لم يعِ حجم المشكلة على اختلاف المشارب، بالنتيجة الواقع لا يتبدّل إذا كانت المشكلةُ فعلاً موجودة فستصل الآثار السلبيّة لها، وأيضاً إذا كان الواقع واقعاً جيّداً وواقعاً خيّراً أيضاً سيعمّ هذا الخيرُ على الجميع، حتّى على الذي لا يلتفت له.
موضوعة الحياء من المواضيع المهمّة التي أصبحت تهدّد مجتمعنا لفقد الأساليب التربويّة الناجحة للنشء، وهذه القضيّةُ -كما نوّهنا- قطعاً لا تُحلّ بخطبةٍ أو محاضرةٍ أو ما أشبه، وإنّما تحتاج الى قراراتٍ وتحتاج الى رعايةٍ اجتماعيّة للحفاظ على هذا البناء المجتمعيّ المهمّ.
نتحدّث اليوم عن مصطلح فَلْنسمِّهِ (الحياء الفكريّ) ما معنى الحياء الفكريّ؟ أو الحياء العلميّ؟ وهذا يختلف عمّا سبق ذكرُه في الأوّل وهو الحياء العرفيّ، الإنسان الذي لا يستحي، وبعض الأحاديث تقول: (إذا كنت لا تستحي فافعلْ ما شئت)، لأنّ الحياء حالةٌ من الكوابح أمام النفس تمنع النفس من أن تُعطى قيادها، الإنسان الذي يستحي لا يفعل ما يشاء، والحديث يقول: إذا كنت لا تستحي فافعل ما شئت، باعتبار أنّ هذه نتيجة لعدم الحياء، الإنسان يتجاوز على الآخرين ويظلم ويكذب ويتصرّف أمام الناس تصرّفاتٍ تدلّ على عدم المبالاة بهم، وهذا كلّه ناشئٌ عن هذا المرض الخطير وهو عدم الحياء.
هناك حياءٌ من نوعٍ خاصّ هو الحياء الفكريّ، أي أنّ الإنسان عليه أن يحترم الفكر وعليه أن يحترم العلم، فإذا كان لا يحترم العلم والفكر معنى ذلك أنّ هذا الرجل ليس لديه حياءٌ علميّ وفكريّ، وإنّما يتخبّط تخبّط عشواء في أمورٍ هو ليس من فرسانها، لا يفقه فيها أيّ شيءٍ وتجده يخوض غمارها وهو جاهل، وأسلوبه أيضاً ينمّ عن جهلٍ، ومن الصعوبة بمكانٍ أن تُقنع جاهلاً، والجاهلُ قد تتعب معه ولا تصل الى نتيجة، وخصوصاً إذا كان لهذا الجاهل أتباعٌ مثله، وهذه مشكلةُ الناس إمّا عالمٌ ربّاني أو متعلّمٌ على سبيل نجاة أو همجٌ رعاعٌ على تقسيم أمير المؤمنين(عليه السلام)، ثمّ يعرّف الفئة الأخيرة فيشير ويقول: ينعقون مع كلّ ناعق، المشكلة هذه، لاحظوا الآن المجتمع فيه مشكلة اقتصاديّة، وفيه جوانب هندسيّة وفيه جوانب تجاريّة وفيه جوانب ثقافيّة وفيه جوانب فكريّة، والجوانب الثقافيّة والفكريّة أيضاً فيها جوانب دينيّة وفيها جوانب غير دينيّة، وهذه طبيعة أيّ مجتمعٍ عندما نفقد الحياء الفكريّ، أي لا نحترم العلم فنتخبّط، وهذا الحديث سواءً كان لدولةٍ تسمعه أو لمؤسّساتٍ تسمعه، العشائر تسمعه، المجتمعات تسمع، والأُسَر تسمع، والمدارس تسمع، عندما لا نحترم الجانب الفكريّ والجانب العلميّ نتخبّط، ولعلّ من أكثر الأشياء عرضةً لهذا هو الجوانب الدينيّة، الجوانب الدينيّة عرضة الى الكلام غير المربوط والكلام غير الدقيق، وتجد أنّنا نمتلك الجرأة على أن نتحدّث في الجوانب الدينيّة بكلّ شيء، قد لا نمتلك هذه الجرأة في الجوانب الهندسيّة مثلاً، أو لا نمتلك الجرأة في الجوانب الطبّية، لأنّ الناس ستُشكِلُ علينا، أنت مهندس؟ نقول: لا، أنت طبيب؟ لا. إذن هذا الأمر اجعله للأطبّاء، إلّا القضايا الدينيّة سمحنا لأنفسنا أنّ كلّ أحدٍ منّا يُمكن أن يتدخّل فيها، وللأسف البعض منّا فقد هذا الحياء الفكريّ، لماذا؟ أمام الطبّ يقف لأنّه إذا تكلّم بغير لُغَة الطبّ يُستهزأ به، أمّا في القضايا الدينيّة أبحنا لأنفسنا أنّنا نتكلّم بكلّ شيءٍ دينيّاً.
ونحن نلفت نظر الإخوة الى قضيّةٍ قد تكون غائبةً، البعض يتصوّر أنّ المسائل الدينيّة والعلوم الدينيّة سهلة، القضيّة قد أكون خارج الحديث لكن فقط للإلمام وهذا حقٌّ تاريخيّ لعلماء علينا، المسائلُ الدينيّة إخواني من أعقد المسائل، فهْمُ الأدلّة الشرعيّة من أعقد الأشياء، الإنسان ليس بالضرورة مع الدرس والتدريس يصلُ الى المراتب العالية التي تُبيح له أن يستنبط الحكم الشرعيّ، أيّ علمٍ من العلوم الآن واقعاً هي أدقّ منه، وفيها تخصّصات دقيقة جدّاً، أنت لا تعتقدْ أنّ الرسالة العمليّة للعالِم كتبها بين ليلةٍ وضحاها، إنّما أفنى عمره الشريف في سبيل أن يكتبها والبعض يتردّد في أن يكتبها، لأنّه يرى نفسه الى الآن هو غير قادر، ويشكّ أنّه مؤهلٌ أو لا، ويأتي أحدٌ بكلّ جرأة وبساطة يُشكِل ويُشكِل ويُشكِل وهو أقرب الى الاستهزاء منه الى المطلب العلميّ، هذا لا يتعلّق إخواني بالمسائل الدينيّة بل يتعلّق بالجميع، لكن مشكلتنا نحن أبحنا لأنفسنا أن نرفض التدخّل في تلك العلوم ونقبل التدخّل في هذه العلوم، وتجد هناك تجاوزاً على رموزٍ وعلى أئمّةٍ وعلى علماء بشكلٍ استسهلنا هذا اللّون من عدم الحياء، الإنسان لو يملك الحياء العلميّ والحياء الفكريّ سيقف ويحترم نفسه، فالذي يملك الحياء يمتلك الاحترام، أنا لابُدّ أن يكون لديّ حياءٌ علميّ فأحترم العلم، ولابُدّ أن يكون لديّ حياءٌ فكريّ فأحترم الفكر، أما إذا كنت لا أملك هذا الحياء سأتخبّط تخبّط عشواء وأكون أضحوكةً، والذي يُساعدني ويُثني على قولي هو مثلي لا يملك هذا الحياء، الذي يملك الحياء يقف يقول: هذا حرام لا يجوز أن أتعدّاه، أنا لست من هذا اللّون وأنا أحترم اختصاصي، وإذا كنت أحترم اختصاصي عليّ أن أحترم اختصاص الآخرين، أنا قلتُ سابقاً والآن أكرّر ويعلم الله أنا حريصٌ جدّاً على شبابنا وعلى أبنائنا وعلى بناتنا، من أن ينزلقوا منزلقاتٍ خطيرة نتيجة عدم تورّع وعدم حياء البعض في أن يلقّنهم معلوماتٍ بعيدةً عن الواقع.
الإنسانُ في بداية حياته هناك الكثير من الأشياء لا يقتنع بها، لكن بمقتضى تطوّر العقل بعد عشرين أو ثلاثين أو خمسين سنة يكتشف أنّ نفسه كانت خاطئة، قال: أنا كنت أُشكِل سابقاً والخطأ عندي، أنا لم أفهم لأنّ وعيي ونضجي لم يؤهّلني الى أن أفهم، لكن خلال هذه الفترة عليه أن يحترم قدراته وأن يحترم قابليّاته، بعض المشاكل تؤدّي الى هلاكٍ اجتماعيّ والى فسادٍ اجتماعيّ، نتيجة الجري مع نكراتٍ ومجهولين يتطاولون على الكثير من ثوابتنا ومبانينا، ونحن بصراحة نقول: لو أنّ هؤلاء لم يجدوا من يسمعُ لهم لَما نَمَوا، المشكلةُ أنّهم يجدون من يسمع لهم، أنا الآن لم أسمع أحداً يتطفّل على الطبّ أو يجعل هناك مكاناً كبيراً ويقول أنا أداوي وأُعالج الناس، سيُكتشف أمرُه والناس أصلاً سينفرون، نعم.. بعضُ الناس قد تأتي مع بعض الدجّالين الذين -مثلاً- يسهّلون العلاجات، وهذه مشكلةٌ أخرى سأتحدّث عنها في وقتٍ آخر، لكن كلّه يرجع الى الجهل، الوعي -إخواني- خصوصاً الإدراكات والوعي الفكريّ والثقافيّ مانعٌ من أن ينخرط المجتمع في المهاوي، اقرأوا الآن هناك أساطير تحكم بعض البلاد، القضيّة مبنيّة على أساطير، تجد هذا المجتمع لا يفهم ماذا يريد، الإنسان عندما يعي ما يفهم وعندما يفكّر سيقف الوعيُ مانعاً، هذه الآيات الشريفة الآن نحن عرب ونفهم اللّغة العربيّة، والقرآن الكريم جاء بلغة العرب، بعض الآيات الشريفة الإنسان يقضي وطراً كبيراً حتّى يفهم بعض ما تشير له الآية الشريفة، ونحن نسمع مَنْ يقول هناك خطأٌ في القرآن الكريم! حقيقةً عندما أقرأ كلام هذا الذي يُخطّئ القرآن الكريم واقعاً أجد كلامه يُضحك الثكلى، لأنّه لا يفهم شيئاً في اللغة ويريد أن يُخطّئ القرآن الكريم!
القرآن نزل بلغة العرب عند العرب الأقحاح الذين كانوا لا يتكلّمون إلّا اللغة العربّية، يتنفّسون الأدب وكلامهم حكمة، هم هؤلاء عجزوا عن ذلك وأنت الآن مجرّد أن تدرس كلاماً أو كلامين تُشكِل على القرآن وتُضحك الآخرين عليك؟!، نعم.. قد يميل معك الذي يكون على شاكلتك، أو أنت تأتي لمقدّساتٍ تستهزئ بها بطريقةٍ مجّة، لا تحترم نفسك ولا عندك حياء لمجرّد أنّ هذا الشيء في ذهنك لابُدّ أن تتفوّه به؟!! هل يُعقل هذا أن نصل الى حالةٍ نحن لا نحترم قيمنا ولا نحترم مبادئنا ولا نحترم مقدّساتنا؟ بدعوى من الدعاوى التي تكلّمنا عنها سابقاً.
نحن قلنا –اخواني- لابُدّ أن تلتفتوا لمميّزٍ مهمّ وأرجو الالتفات له، لتسمع الدولة وتسمع المنظّمات وكلّ أحدٍ يسمع، لابُدّ أن تميّزوا بين الفوضى والحريّة، وهذا الذي يجري هو بسبب الفوضى، ما جدوى أن نتكلّم كلاماً إذا كان لا يترتّب عليه أثر؟، هذا الذي أوصلنا الى ما نحن فيه هو وجودُ الفوضى، أنهوا الفوضى.. لا تقدرون على أن تُنهوا الفوضى؟! أنهوا الفوضى وأبدلوها بحريّة، فالحرّية لها ضوابط -كما قلنا- والحريّة لها أصول ولها قيم ونحن أبناءُ الحريّة، الله تعالى خلقنا أحراراً ونحن نريد الحرّية لا نريد الفوضى، الفوضى فيها مهالك، على الإنسان أن يحترم ويكون عنده هذا الحياء الفكريّ والحياء العلميّ، أنا عندما أناقش رجلاً عالماً لابُدّ أن أتسلّح بشيءٍ حتى أكون بمستوى النقاش.
واقعاً -إخواني- أنتم لا تعرفون طريقة الحوزات المباركة أينما كانت، في طريقة التلقّي والدرس والجهد، البعض يتعب ولا يتحمّل الجهد فيحتاج الى مران ويحتاج الى توفيق، حتّى يخرج عالماً يحمل علوم آل محمد بعد أن يقضي سبعين أو ستّين عاماً، الأمرُ ليس سهلاً -إخواني- هذه أمانةٌ أُلقيها من عنقي لكم لابُدّ أن تحافظوا على المقدّسات، إخواني حافظوا على المقدّسات وحافظوا على القيم وحافظوا على الحياء الفكريّ والحياء العلميّ، علينا أن لا نبيح لأنفسنا أن نتدخّل في كلّ شيء ونرفض كلّ شيء وننقد كلّ شيء، المشكلة أنّ بعض الشباب وقعوا في فخٍّ، يناقش ويناقش وعندما يصل الى الطبّ يسكت، وعندما يصل الى الهندسة يسكت، لذلك وقعنا في مشاكل إخواني.
هذا قولي وهذه نصيحتي لنفسي قبل أن تكون لكم، لكن يعلم الله أنّ ما يمرّ به شبابُنا وتمرّ به بناتنا أمرٌ يحتاج الى جهدٍ منّا جميعاً، إخواني هؤلاء الشباب هم بذرةُ البلاد وهؤلاء هم أملُ البلاد فلْيُربّوا تربيةً سويّةً صالحةً مؤمنةً فاضلة تنفع البلد، فهؤلاء هم من سيبنون البلد، إذا لم يكن فكرُ الإنسان مستقيماً كيف له أن يبني بلده؟!، الفكرُ المعوجّ لا يحقّق بناءً مستقيماً، فهذا مستحيل ولا يُمكن أن يكون.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا في بلدنا كلّ خيرٍ وأن يحفظ شبابنا ويحفظ بناتنا ويحفظكم جميعاً في أهلكم ومتعلّقيكم، ونأمل من الله سبحانه وتعالى أن تنتهي الفوضى ويحترم بعضُنا بعضاً، سائلين اللهَ تبارك وتعالى التوفيق للجميع بمحمّدٍ وآله، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.
المصدر: أرشف خطب الجمعة لممثل المرجعية الدينية السيّد أحمد الصافي
الجمعة (5 نيسان 2019م).