ولا يعني هذا أن الحق بإمكانه الاستفادة المطلقة من كل ما يتوفر من عوامل ووسائل، ففي الوقت الذي لا يتقيد الباطل بأي محاذير فيما يستعين به من وسائل، نجد أن الحق مقيد في وسائله بمجموعة من الضوابط الأخلاقية والقيمية، وقد يشكل ذلك مفارقة كبيرة في طبيعة هذا الصراع، الأمر الذي يوحي على المستوى التكتيكي بتوافر فرص الباطل على حساب فرص الحق، إلا أنه على المستوى الاستراتيجي والمنظور البعيد للمآلات النهائية فإن الأمر مختلف؛ فعندما يستعين الحق بعوامل الحق فإنه يؤسس قواعده على أرض صلبة، بخلاف الباطل الذي يبني بنيانه على شفا جرف هار، وقد صور القرآن هذه المفارقة في قوله تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، فالغلبة في خاتمة المطاف لمن يتمسك بالحق ويعمل به حتى لو بعد حين، أما الباطل فلا قرار له ومصيره حتماً الزوال حتى لو تحكم ظاهرياً على الواقع، قال تعالى: (كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ)
وعليه فأن الباطل يسير عادة في اتجاه رغبات النفس وأهوائها، في حين أن الحق يحمل الإنسان على التسامي والترفع عن صغائر الأمور، ومن المؤكد أن الصعود والتسامي يتطلب جهداً بعكس النزول والتسافل، ومن هنا لا يمكن مقارنة مغريات الباطل بقيم الحق في ما يتعلق بسرعة الاستجابة عند عامة الناس، فمثلاً بناء مجتمع عفيف ومتطهر من الرذائل الأخلاقية كالزناء أصعب بكثير من فتح الباب أمام غرائزه ورغباته، ومن هنا لا يمكن مقايسة وسائل الحق في تطهير المجتمع بوسائل الباطل في تدنيسه، ولا يمكن القول أن الوسائل الباطل متقدمة كثيراً على وسائل الحق، لأن طبيعة الحق تسير في اتجاه معاكس لما تسير عليه طبيعة الباطل، فالموسيقى والأغاني والتبرج والنوادي الليلية والملاهي والسينما وغير ذلك تعد وسائل متاحة أمام الباطل، في حين أن الحق في قبال كل ذلك لا يمتلك غير الكلمة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ومن دون أن يقدم أي مغريات وقتية، فلو أراد الحق أن يجاري وسائل الضلال العالمية ماذا عساه أن يصنع في قبالها؟
ولا يفهم من ذلك أننا نبرر لما هو موجود، وإنما نريد أن نؤكد على أن المقارنة بين الحق والباطل يجب أن تكون على الفوارق بين طبيعة الحق وطبيعة الباطل، وليس على أساس وسائل الباطل في قبال وسائل الحق، فالحق بطبيعته يمتلك عوامل البقاء بينما طبيعة الباطل هي الزوال، والأمر الأخر أن الحق يمثل الموقف الوجودي للإنسان، بمعنى أن فلسفة وجوده وقيمته الحياتية تُحدد بحسب ما يجب أن يكون عليه من مواقف، فالإنسان بما هو إنسان مسؤول عن الحق مهما تعالى صوت الباطل، ومن هنا لا يكون الإنسان معذوراً في عدم تمسكه بالحق بأي حجة من الحجج، قال تعالى: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ۖ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) وقال تعالى: (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)
وما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم من انتكاسات وهزائم يعود إلى سبب مركزي وهو عدم تمسكها بالحق كما ينبغي، بل نجدها تنافست مع الباطل في الاستعانة بوسائله وأسبابه، وما يشير إليه السائل من التأثير السلبي لوسائل الاعلام فإنه يشمل وسائل الإعلام في عالمنا العربي والإسلامي، الأمر الذي يؤكد على أن الأمة تخلت عن مشروع الحق واصطفت بشكل مباشر أو غير مباشر خلف مشروع الباطل، وما تبقى من بقية باقية على الحق أصبحت أقلية وفي أكثر الأحيان مغلوب على أمرها، وهي مع ذلك تقوم بدورها بما يتوفر لها من وسائل وإمكانات، فأسست المراكز الدينية والحوزات العلمية وأرسلت المبلغين وفتحت القنوات التلفزيونية وأسست المواقع الإلكترونية، وإن لم يكن ذلك معادل لما عند الباطل إلا أنه المقدار الذي تتيحه الظروف، وما يثير التعجب أن بقية الأمة تحمّل هذه الجهة تمام المسؤولية وتنتظر منها وحدها التصدي لمشروع الباطل، في حين أن الأمة كل الأمة هي المسؤولة عن إقامة الحق ومواجهة الباطل، والذي لا يقوم بدوره سوف يتحمل وحده المصير الذي ينتظره، فرجل الدين ليس وحده من يتصدى، وإنما التجار، وزعماء القبائل والعشائر، والقادة السياسيين، وجميع طبقات المجتمع، أي أن الكل يصبح مسؤولاً إذا لم يقوموا بدورهم في نصرة الحق ومواجهة الباطل، ومن المعيب أن تركز كل سهام التقصير على المؤسسة الدينية والقائمين عليها.
ومن هنا فإن مواجهة كل ذلك تكون من خلال تحمل الأمة لمسؤوليتها اتجاه الحق، فلو لم تتضافر الجهود وتنسق الإمكانات لا يمكن إسكات صوت الباطل المرتفع، فمن السهل جداً القول أن مواجهة التضليل الإعلامي من خلال تأسيس مراكز إعلامية ضخمة ومحترفة، إلا أن ذلك يظل مجرد أمنية طالما لم تتصدى جميع الأمة لذلك، فبالإمكان رسم تصور حالم يستعرض خطة تفصيلية تستوعب تأسيس الجامعات وتطوير الحوزات، وإقامة مراكز الأبحاث والدراسات، واطلاق الأقمار الصناعية، وغير ذلك من أحلام اليقظة التي لا تنتمي للواقع، وعليه عندما يأتي سؤال عن كيفية مواجهة الباطل، أما أنه يبحث عن تطوير وسائل الحق، وإما أنه يبحث عن إعادة الاعتبار للحق، وبما أن الحق لم يصبح ذو قيمة واعتبار عند الأمة، لا يمكن حينها مخاطبتها بضرورة تطوير وسائل الحق، ومتى ما اكتشفت الأمة أهمية الحق وتمسكت به فإن النصر سيكون حليفها لا محالة.
فالإجابة على السؤال باختصار؛ بأن مواجهة الباطل تكون عن طريق تحمل جميع الأمة مسؤوليتها اتجاه الحق، وذلك بان تتعامل معه بوصفه يمثل مصيرها الوجودي، ومن ثم يأتي ضرورة استثمار كل الطاقات في الدفاع عن الحق وتثبيت أركانه، أما الأمور الإجرائية والخطط التنفيذية لتحقيق ذلك فإنها تتغير بحسب الظرف الزماني، ولا يمكن الحديث عنها في ظل عدم احترام الأمة للحق لكونه حقاً، ولا يجوز الاعتذار للأمة من خلال أن وسائل التبليغ المتاحة اليوم غير كافية، فهي مسؤولة حتى لو لم يكن هناك أحد يدعو للحق، فطالما اختارت الأمة الإسلام وطالما تحاكمت للقرآن فلا سبيل امامها غير التمسك به الدفاع عنه.