في أواخر الستينيات من القرن الماضي، تنبّأ الرسام الأميركي "آندي وورهول" بظهور وسيط إعلامي يوفر للشخص العادي حلم الشهرة السريع، وعبّر عن ذلك في إحدى مقابلاته بمقولته الشهيرة: "في المستقبل، سيتمكن الجميع من أن يصبحوا مشهورين شهرة عالمية خلال 15 دقيقة فقط".
ورغم أنه في الستينيات لم تكن وسائل الإعلام واسعة الانتشار بما يحقق نبوءة "ووهول"، فإنه بعد أكثر من خمسين عاما من نبوءته، ستظهر وسائل التواصل الاجتماعي التي حملت على عاتقها تلك المهمة، فصار ما يكتبه المرء في الشمال الأقصى بإمكانه أن يصل إلى أدنى الجنوب في اللازمن، فحسب موقع "Mamsys"، فإنه في عام 2017 فقط، كان معدّل الدخول على موقع فيسبوك نحو 900.000 في الدقيقة الواحدة، مقابل 46.200 صورة يتم تنزيلها على إنستغرام، و452.000 تغريدة على تويتر، ونحو 4 ملايين مشاهدة على يوتيوب في الدقيقة ذاتها.
وذلك الزخم الذي أفسح كثيرا لانتشار المشاهير على نطاق واسع -ضخم- لم يسبق له مثيل في الماضي، ولأسباب تختلف -كذلك- عن أسباب الشهرة في الماضي البعيد، وحتى القريب، فصارت وسائل التواصل عامرة بالكثير من الأسماء المشهور -على اختلافاتها- فما بين الجاد الذي يقدم محتوى علميا أو معرفيا ما، أو بين الوجه الآخر من المشاهير الذين يتفننون في المحتوى الفارغ، تبرز لنا ظاهرة الشهرة على مواقع التواصل كحالة تحتاج إلى التأمل والتساؤل.
فعلى إنستغرام تتفاوت أسماء العارضات -الفاشيونيستا- في تسابق على أرقام المتابعين المقدرة بمئات الآلاف، وربما الملايين؛ لأنهن يقدمن صورتهن في أزياء ومستحضرات تجميل جديدة. وكذلك هو الحال على فيسبوك ويوتيوب لبعض صانعي المحتوى الذي لا يضيف قيمة تتناسب مع شهرة صاحبها، فهذا يحرك شفتيه على أنغام أغنية شعبية فيحصد مئات ملايين المشاهدات بلا أي سبب منطقي لهذا، وآخر يصور محتوى ساخرا عن يوميات أسرته، وهذا يستعمل إفيهات الأفلام، وآخر يقلّد المعلقين الرياضيين، إلى آخر تلك القائمة الطويلة.
ذلك العرض المستمر للذات على الآخرين لاجتلاب اهتمامهم بصرف النظر عن جودة المحتوى المقدم يدفعنا إلى التساؤل حول الأمر، هل هو حدث عارض صنعته وسائل التواصل، أم هي شهوات للذات خدمها فيسبوك وأقرانه؟ وما نتيجة الشهرة السريعة فارغة المحتوى؟ وكيف هو حال الجماهير في التعامل مع المشاهير في العصر الحديث؟ لكن قبل ذلك، نحن في حاجة إلى معرفة الدافع: لِمَ يحدث هذا من الأساس؟
عندما تبحث عن الاحتياجات البشرية، فإن عالم النفس الأميركي "أبراهام ماسلو" سيعطيك الإجابة، وفق دراسات قام بها على زائري عيادته، على النحو التالي: في البدء، يحتاج الإنسان إلى إشباع رغباته الفسيولوجية، ثم الأمنية، مرورا بالرغبات الاجتماعية، ليقف بك التدرج عند الحاجة إلى التقدير، ثم يمضي إلى الحاجة الذاتية في التميز والتفرّد.
الحاجة إلى التقدير إذن، ذلك الدافع الطامح إلى إشباع رغبته والمتمركز حول "الأنا"، "حيث تقترن حاجات تحقيق الذات اقترانا وثيقا بالسعي وراء الشهرة وحب الظهور"، وفي هذا السياق، يذكر الدكتور "ميتش برينشتاين" أحد الباحثين البارزين في علم نفس الشعبية بجامعة "نورث كارولينا"، أن الباحثين يُقسمون الشعبية إلى نوعين:
النوع الأول، وهي الشعبية القائمة على التفضيل الاجتماعي، أو المحبة والاحترام اللذين يلقاهما المرء نتيجة لتمتعه بشخصية جذّابة و"كاريزما" لطيفة. والنوع الثاني، وهي الشعبية المتمحورة حول السمعة الاجتماعية، والتي يسعى من خلالها المرء لحيازة الإعجاب بصرف النظر عن كونه محبوبا أم لا.
ويرى "برينشتاين" أن هذا النوع الأخير بات الأكثر انتشارا في العالم، وهو آخذ في التزايد بصورة خطيرة، "ومقارنة بالعقود القليلة الماضية، أصبحت أهداف حياتنا اليوم تعكس رغبتنا في امتلاك المزيد من الممتلكات، والحصول على المزيد من القوة، والشعور بمكانتنا ونُفُوذِنا، وكوننا مؤثرين وأصحاب سلطة بين مجتمعاتنا. ويتناقض هذا بشكل صارخ مع رغبتنا في تعزيز المجتمع وتنميته، والتعاون بعضنا مع بعض كما كان منذ بضعة عقود".
فالرغبة في الشهرة -لدى هذا النوع- قد تُخفي إحباطا أو اضطرابا نفسيا غير مشخّص، كما تقدم الشهرة وعدا -كذلك- بالهروب من العزلة، سواء كان ذلك حقيقيا أو بصورة متخيلة. "إنها تردع المنتقدين، بل وربما تعتصر بعض الفُتات من التقدير من أولئك الذين استكثروا علينا الابتسامة بينما كنا نتشبث بطريقنا للخروج من أرض النكرات".
فكلما جمعنا المزيد من التقدير كانت الجرأة على تجاهلنا أقل، فالشهرة -في حالات كتلك- تلعب دور الدرع المُحصِّن لنا من الإحباط، "إنها تصرح بأهميتنا لأي شخص يحاول أن يضعنا جانبا وتهدده بعواقب في حال تماديه.. إنها تساعد على تهدئة الأصوات المنتقدة التي قمنا بكبتها في داخلنا من الآباء والأمهات، وزملاء الدراسة والمدرسين".
في وصفه لطبيعة التفاعل الاجتماعي يرى عالم الاجتماع "إرفينغ غوفمان" في نظريته عن عرض الذات أن ثمة جدلية أساسية تكمن خلف جميع تفاعلاتنا الاجتماعية، وهي أن الفرد عندما يكون في حضور الآخرين فإنه يسعى لاستكشاف واقعهم، ومن ثم يقوم بتصدير صورته إليهم بالشكل الذي يتسق مع مصلحته الذاتية، وهو ما يحققه له الاهتمام بالمظاهر في كثير من الأحيان.
فحسب "باوميستير وهيوتن"، فإن عرض الذات يمكن التعبير عنه بالسلوك الذي "يتوخى توصيل بعض المعلومات حول الذات أو بعض من صورة الذات إلى الآخرين"، وهو ما لا يتم "إلا إذا كان هناك من سيطلع على هذا العرض ومن سيقيّمه". فحينها يتحرك المرء لعرض ذاته بدافعين رئيسيين، أولهما: هو إرضاء الجمهور، بمقارنة المعروض من الذات مع توقعات وتفضيلات الآخرين لينال إعجابهم وإثابتهم.
وثانيهما: هو إرضاء الذات نفسها، أو بمعنى أدقّ بناؤها، وذلك عن طريق مقارنة المرء لها (ذاته الفعلية) مع التصور النموذجي لديه عنها (ذاته المرجوّة)، فتراه يصدّر للجمهور صورة الذات التي يود أن يكون عليها، لا ذاته التي هو عليها بالفعل، فترضى ذاته الفعلية عن تلك الصورة المعروضة التي تجتذب الإعجاب، وكأنها هي في حقيقة الأمر.
ذلك الدافع الأخير، وحسب الباحث "طارق عثمان"، قد وفّرت له وسائل التواصل الاجتماعي منصة عريضة لمزاولته من خلال "بروفايل" المرء ومدوناته و"سيلفيهاته"، "فالأصدقاء والمتابعون على فيسبوك بمنزلة الجمهور الذي يعرض المرء جزءا من ذاته أمامه"، إمّا لكسب رضاهم، وإمّا لإقناع ذاته بصورته التي يود أن يكون عليها. الأمر الذي يوافقه "جيفري هانكوك"، أستاذ التواصل بجامعة "ستانفور" من خلال بحث نشره في مجلة "Cyberpsychology Behavior and Social Networking"، يُفيد أن فيسبوك قد يملك تأثيرا إيجابيا على تقدير الذات لدى طلاب الجامعات؛ "لأنه في الغالب يُظهر النسخة الإيجابية من أنفسنا. كذلك، وجدت دراسة أخرى نُشرت في نفس المجلة، أن استعراض وتعديل حساب الفيسبوك الخاص بك، يمكنه أن يُعزز ثقتك بنفسك وتقديرك لذاتك".
مما تقدّم، فأن تكون مشهورا يعني أننا أمام احتمالين: أن تكون مستحقا لذلك لما لديك من الإفادة أو الشخصية النافعة/ذات الكاريزما، وإما أن تكون ساعيا للشهرة بلا أي رصيد معرفي يضيف إلى متابعيك أي شيء. لكن ماذا عن النرجسية؟ هل تدعم الشهرة النرجسية، أم نسعى نحن لها لكوننا نرجسيين؟
بداية، فيمكن تعريف النرجسية بأنها "سمة أو خصيصة شخصية تنطوي على رؤية الشخص لنفسه ككائن متفوق وأرفع مقاما ومنزلة. وهذه الشخصية تأتي مع الإحساس بالتخويل أو التفويض "أستحق الأفضل"، أي الميل لوضع الذات أولا والاستخفاف برغبات وحاجات الآخرين وفرط تقدير الذات".
وفي هذا الشأن، فقد أفضت دراسة لمجموعة من الباحثين الكنديين بجامعة "يورك" إلى أن "الأفراد الذين يُمضون أوقاتا أطول على فيسبوك، يميلون إلى امتلاك شخصيات نرجسية وشعور دفين بعدم الأمان". الأمر الذي يدفعهم إلى ترويج ذاتهم كالسلعة المعروضة للجماهير، ويزيد -بدوره- من نرجسيتهم واعتدادهم بأنفسهم.
حيث أثبتت العديد من الدراسات "وجود صلة مباشرة، بين الزيادة الحادة في تشخيص اضطراب الشخصية النرجسية خلال عشر السنوات الأخيرة، وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي في كل مكان" ذلك فضلا عن تصنيف الباحثين لبعض السلوكيات "التي يتبعها رواد تلك الشبكات مثل السعي لاجتذاب مزيد من المتابعين، والظهور في صورة إيجابية أمامهم طوال الوقت، ومشاركة تفاصيل حياتهم معهم، ضمن صفات الشخصية النرجسية على وسائل التواصل".
كما أُجريت بعض الدراسات على عينة من المشاهير، فأظهرت مستويات عالية من السمات النرجسية أعلى مما لدى الناس الآخرين، لكن ما وجدته هذه الدراسات هو أنه لا علاقة للنرجسية بالفترة الزمنية للشهرة، مما قد يعني "أن النرجسيين ينجذبون إلى أسلوب حياة المشاهير وليس أن أسلوب حياة المشاهير يحول هؤلاء تدريجيا إلى نرجسيين".
لكن -ووفقا للدكتور "تيسير حسون" أخصائي الطب النفسي- فإن حالة الشهرة تزيد بدورها من النرجسية، وهو ما يسميه "النرجسية الظرفية المكتسبة"، أي "الإحساس المتضخم بالتخويل والتفوق الذي يأتي من كون الشخص مشهورا، غير أنه من المرجح أن يسير سهم الأسباب بالاتجاهين: النرجسيون يسعون بجهد ليصبحوا مشاهير، وأسلوب حياة المشاهير يزيد النرجسية".
الأمر الذي يؤثر بدوره على العلاقات الإنسانية بين هؤلاء المشاهير -المصابين بتضخم النرجسية- وبين من يخوضون معهم أي علاقة إنسانية، فالمشاهير بشكل عام أكثر جاذبية من الناس العاديين، الذين يصطفون في طوابير لينخرطوا في علاقة رومانسية مع المشاهير. "فأن تكون شهيرا فهذا يعني أن تعيش في بحر من الإغواء، وإذا ما صادف أنك من النمط الأكثر نرجسية، فإن لديك أرجحية كبرى لأن تشبك صنارتك مع شخص آخر غير شريكك".
في العلاقة بين عالمين: يضع "زيجمونت باومان" تفصيله بين عالم حقيقي نحياه، وعالم افتراضي نحيا به. ففي نظرية "باومان" عن تلك العلاقة، يرى عالم الاجتماع البولندي أن مواقع التواصل الافتراضية قد عكست القواعد التي ينبني عليها التفكير والشعور، فأصبح العالم الافتراضي هو المعيار الذي يحتكم إليه العالم الحقيقي، لا العكس، وبهذا تصبح شهرة مواقع التواصل -والتي لا تعبر بالضرورة عن قيمة صاحبها في الواقع- شيئا حقيقيا يستحق كل هذا المجهود لعرض الذات.
لكن يبقى السؤال: هل يستحق الأمر هذا الاهتمام؟ أو بصورة أدق: هل تحقيق الشهرة في فضاء كهذا يغني صاحبه؟ على ما يبدو أن "باومان" يمتلك إجابة أخرى، فهو يرى أن الشهرة فقدت قيمتها عمّا كانت عليه فيما سبق، ويضع في ذلك مقارنة بين شهرة الشهداء -مثلا- في العصور السابقة، وشهرة نجوم الصورة والبروباغندا الحالية.
فيقول: "كانت شهرة الشهداء والأبطال تُستمَد من أفعالهم، وكانت ذكراهم حيّة حتى يمكن تخليد تلك الأفعال"، فالأسباب التي وضعت المشاهير في بؤرة الضوء هي أقل الأسباب أهمية للاشتهار، فالسبب الرئيسي هنا هو تكرارهم وانتشارهم بصورة فجّة على وسائل الإعلام/التواصل دون أن يمتلكوا سببا نافعا لشهرتهم.
الأمر الذي يُسلِّع هؤلاء المشاهير مرة أخرى، أي يحولهم إلى مجموعة من السلع، فبعد عرض الذات الذي يتجاوز أحيانا أدق الخصوصيات -كما تسمح بعض الفاشيونيستا للجمهور بمعاينة تفاصيل يومها الخاصة، يقف المشهور ثانية على خشبة الجمهور كسلعة يمكنه الاستغناء عنها والانتقال إلى غيره، فالاشتهار يختلف عن الشهرة في كونه يتكون من أحداث منفصلة/مجموعة من المنشورات أو الفيديوهات غير ذات القيمة.
فكل "موكب من مواكب المشاهير يطلع من مكان غير معلوم لتطويه بعد فترة وجيزة صفحة النسيان"، فمعجبو المشاهير غير معجبي الشهداء أو الأبطال؛ ذلك لأنهم لا يستبعدون ولا يمتنعون عن الانتقال إلى غيرهم ممن يقدّمون أنفسهم في أثواب الموضة أو الابتذال، وهو ما تشجع عليه سمات العصر الاستهلاكي الحديث وفقا لـ "باومان".
فالأمر في النهاية -حسب "باومان"- لا يبدو ذا قيمة حقيقية ما لم يكن للمرء نفع أو بطولة فعلية تغيّر وجه الحياة لمعجبيه، فلو كانت الشهرة، بصورتها السائلة الحديثة، شيئا يُسعى إليه، بل تُكتَب فيه النصائح لتضجّ بها محركات البحث على الإنترنت، فما القيمة الفعلية التي يحققها المرء من ذلك؟
هل هي احتياجات الذات الساعية إلى التقدير؟ وإن كان الأمر كذلك، فهل كل ما تحتاجه النفس يكون مشروعا دون تحجيم أو تهذيب؟ وهل يمكن اعتبار هذا الطلب خللا نفسيا يفضي بصاحبه إلى النرجسية والتعالي على الآخرين بسبب عدد المتابعين في صفحته على أحد مواقع التواصل؟ وإذا كان ذلك مقبولا لدى البعض ويستحق التجربة، فيبقى السؤال الذي طرحه "باومان" على استحياء لكل مشهور بلا بطولة: هل يستحق الأمر -فعلا- كل ذاك؟
الجزيرة