أشار الله سبحانه في خلال جملة من الآيات إلى حقيقة ناصعة هي المدار الذي يدور عليه أساس نزول النعم والنقم على العالم الإنساني من ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (1).
فأشار به إلى سبب نزول النعم؛ وقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2). الذي يشير إلى سبب نزول النقم العامة.
وتوضيح ذلك: أن العالم بما فيه من الأجزاء متعلق الأبعاض مرتبط الأطراف يتصل بعضه ببعض اتصال أعضاء بدن واحد، وكما إن أجزاء البدن الواحد يتأثر بعضها ببعض من ناحية الصحة والمرض، فيختل صدور آثار بعض الأجزاء نتيجة الخلل الصادر من الجزء الآخر، ويستقيم صدور الآثار الحسنة فيما لو استقامت باقي الأجزاء؛ كذلك أجزاء هذا العالم.
فمثلاً إذا اختل بعض أجزاء السيارة بأن تعطلت بعض أجهزتها الأساسية والمهمة، فإننا نجد أن كامل محرك السيارة قد تأثر بهذا العطل واختلفت آثاره.
وهنا نقول: إن الجميع على ما يبينه القرآن الكريم سائر إلى الله سبحانه سالك نحو الغاية التي قدرت له {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} (3).
فإذا اختل أمر بعض أجزائه، وخاصة المهمة منها كالإنسان، وضعف أثره وانحرف عن مستقيم صراطه بأن أثر فساده في غيره من الموجودات، فحينئذ سينعكس ذلك عليه – أي الإنسان - في الآثار التي يرسلها ذلك الغير إليه، وهي آثار غير ملائمة لحال الإنسان - و هي المحنة و البلية - فإن استقام بنفسه أو بإعانة من غيره عاد إليه رفاه حاله السابق، ولو استمر على انحرافه واعوجاجه، وأدام فساد حاله دامت له المحنة حتى إذا طغا وتجاوز حده، انتهضت عليه سائر الأجزاء الأخرى للعالم وهاجت بقواها التي أودعها الله سبحانه فيها لحفظ وجوداتها فحطمته ودكته ومحته بغتة وهو لا يشعر.
انحراف الأمم واختلال نظام الكون
فالأمة من الأمم إذا انحرفت عن صراط الفطرة انحرافاً يصد باقي أفراد النوع الإنساني عن الغاية التي قدرت لمسيره في الحياة كان في ذلك اختلال حال غيره مما يحيط به من الأسباب الكونية المرتبطة به، وينعكس إليه أثره السيئ الذي لا سبب له إلاّ انحرافه عن الصراط وتوجيهه آثاراً سيئة من نفسه إلى تلك الأسباب، وعند ذلك يظهر اختلالات في نظام الكون، ومحن عامة وتهجم النوائب وتتراكم المصائب والبلايا الكونية كامتناع السماء من أن تمطر، والأرض من أن تنبت، والبركات من أن تنزل، ومفاجأة السيول والطوفانات والصواعق والزلازل وخسف البقاع وغير ذلك كل ذلك آيات إلهية تنبه الإنسان وتدعو الأمة إلى الرجوع إلى ربها، والعود إلى ما تركته من صراط الفطرة المستقيم، وامتحان بالعسر بعد ما امتحنت باليسر.
وقوله تعالى السابق: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (4). خير شاهد على ذلك، فالآية تذكر أن المظالم والذنوب التي تكسبها أيدي الناس توجب فساداً في البر والبحر مما يعود إلى الإنسان كوقوع الحروب وانقطاع الطرق وارتفاع الأمن وغير ذلك، أو لا يعود إليه كاختلال الأوضاع الجوية والأرضية الذي يتضرر به الإنسان في حياته ومعاشه.
وبالجملة فإن رجعت الأمة بذلك - وما أقله وأندره في الأمم - فهو، وإن استمرت على ضلالها وخبطها طبع الله على قلوبهم فاعتادوا ذلك، وأصبحوا يحسبون أن الحياة الإنسانية ليست إلاّ هذه الحياة المضطربة الشقية المقهورة للطبيعة.
فهذه حقيقة برهانية تقرر أن الإنسان كغيره من الأنواع الكونية مرتبط الوجود بسائر أجزاء الكون المحيطة به، ولأعماله في مسير حياته وسلوكه إلى منزل السعادة ارتباط بغيره فإن صلحت للكون صلحت أجزاء الكون له وفتحت له بركات السماء، وإن فسدت أفسدت الكون وقابله الكون بالفساد فإن رجع إلى الصلاح فبها، وإلاّ جرى على فساده حتى إذا تعرق فيه انتهض عليه الكون وأهلكه بهدم بنيانه وإعفاء أثره، وطهر الأرض من رجسه.
ومن هنا ينهض سؤال آخر، وهو:
هل يمكن دفع قهر الطبيعة بالعلم؟
قد يتصور البعض إن بإمكانه التغلب على هذه البلايا والمصائب العامة بما يملكه من الأسباب، فيظن أن التقدم فيما يسميه حضارة وعلماً سيغلب به طبيعة الكون.
فإذا تقدم في العلم وتجهز بالحيل الفكرية فله أن يبارزها ويتخذ وسائل كافية في دفع قهرها وإبطال مكرها كما اتخذ اليوم وسائل تكفي لدفع القحط والجدب والوباء والطاعون وسائر الأمراض العامة السارية، وأخرى تنفي بها السيول والطوفانات والصواعق، وغير ذلك مما يأتي به طاغية الطبيعة، ويهدد النوع بالهلاك.
يظن الإنسان بما يملك من العلم وباقي الأسباب قادر أن يقف بوجه سنن الكون، ويبطل عزائمها، ويقهرها على أن تطيعه في مشيته، وتنقاد لأهوائه، وهو أحد أجزائها المحكوم بحكمها.
وذكرنا مراراً إننا لا ننكر تأثير الأسباب الأخرى، وإن المعرفة الدينية لا تروم أن تبطل نسبة الحوادث العظام إلى أسبابها الطبيعية وتضع زمامها في يد صانعها.
فالله عز اسمه ليس سبباً في عرض الأسباب، وعلة في صف العلل المادية والقوى الفعالة في الطبيعة بل هو الذي أحاط بكل شيء، وخلق كل سبب فساقه وقاده إلى مسببه وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى ولا يحيط بخلقه ومسببه غيره فله أن يتسبب إلى كل شيء بما أراده من الأسباب المجهولة عندنا الغائبة عن علومنا.
بعبارة أخرى إن هناك أسباباً غيبية ومادية أخرى غير هذه الأسباب فيسوق الكون بها، وحينئذ لا تنفعهم هذه العلوم والحيل التي تدرعوا بها فتمنعهم عن قضاءه، فيما لو استحقوا العقوبة.
وإلى ذلك يشير نحو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} (5). وقوله: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (6). وقوله: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِير} (7)، وقوله:{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (8). إلى غير ذلك من الآيات.
وكيف يسع للإنسان أن يحارب الله في ملكه، ويتخذ بفكره وسائل لإبطال حكمه وإرادته، وليس هو سبحانه في عرضها بل هو في طولها أي هو الذي خلق الإنسان وخلق منه هذه الإرادة ثم الفكر ثم الوسائل المتخذة، ووضع كلاً في موضعه، وربط بعضها ببعض من بدئها إلى ختمها حتى أنهاها إلى الغاية الأخيرة التي يريد الإنسان بجهالته أن يحارب بها ربه في قضائه وقدره، ويناقضه في حكمه، أيعجز سبحانه عن إيقاف هذا الفكر وقبضه عن غايته، أو التسبب بأسباب أخرى للوصول إلى ما يريد من عقوبات استحقها الإنسان بما كسبت يدا.
------------------
الهوامش:
([1]) سورة الأعراف: 96.
([2]) سورة الروم: 41.
([3]) سورة الانشقاق: 6.
([4]) سورة الروم: 41.
([5]) سورة الطلاق: 3.
([6]) سورة يوسف: 21.
([7]) سورة الشورى: 31.
([8]) سورة العنكبوت: 41.