ينشر موقع الأئمة الاثني عشر مقالاً جديداً لسماحة آية الله السيد محمد باقر السيستاني حول الاختلاط والتواصل بين الجنسين الذي كثُر في الآونة الأخيرة، فيما ذكر ثلاثة أسباب للانحراف.
فيما يلي النص الكامل للمقال:
الاختلاط والتواصل بين الجنسين وأهمية رعاية الحدود في ذلك:
إنّ من أهمّ المسائل في الحياة الاجتماعية للإنسان هي رعاية الرجل والمرأة للحدود في مقام التعامل فيما بينهما سواء كان هذا التعامل من خلال اللقاء ــــ المعبّر عنه بالاختلاط ــــ أو من خلال أدوات التواصل.
وهذه الأهمية تقتضي تبصّر الإنسان فيها تبصّراً كافياً واتخاذه السلوك الملائم، حتى لا يقع من حيث لا يحتسب في المسارات الخاطئة والنهايات غير الحميدة.
وقد كان للإنسان منذ فجر التاريخ ــــ بوحي من فطرته وتجاربه في الحياة ــــ اهتمامٌ برعاية ذلك، وقد أسس له في كل مجتمع أعراف تصون المجتمع والأسرة عن الوقوع في المحاذير الناتجة عن الوجوه الخاطئة من الاختلاط التي تؤدي إلى الانزلاق في أمور ذميمة وضارة.
الحاجة المؤكدة في هذا العصر إلى الاهتمام بالموضوع:
وتتأكد الحاجة في هذا العصر إلى مزيد من الاهتمام فيه ـــ من جهة كثرة سبل الإثارة وتيسّر أسباب الانحراف ـــ لأسباب ثلاثة:
الأوّل: إتاحة العالم الافتراضي اطّلاع الإنسان على المشاهد غير اللائقة التي قلما كان الإنسان من قبل يشهدها في العالم الحي، فتؤدي هذه المشاهد إلى إثارة كبيرة للإنسان وتوجب وسوسته في تقليدها واحتذائها، وتشوب نقاءه الفطري وصفاءه النفسي بشوائب خطيرة ومؤذية لا يمكن إزالتها وإزالة آثارها عن النفس بسهولة بل مطلقاً في العديد من الحالات ولاسيما إذا اطلع عليها في مرحلة الطفولة أو المراهقة.
الثاني: تيسّر وسائل التواصل الاجتماعي التي تسهّل التواصل الخاطئ بين الرجل والمرأة بعيداً عن أجواء الأسرة والمجتمع العام التي كانت من قبل عيناً عاصمة للإنسان عن الانزلاق إلى الخطأ والخطيئة.
الثالث: حدوث مراكز يقع فيها الاختلاط بين الرجال والنساء على وجه منظّم، بمعنى أن الرجل المعيّن والمرأة المعينة يلتقيان ولو في ضمن اجتماع أوسع بشكل متكرر ومنظم وفي مكان خاص وليس عام على حد السوق والشارع، كما في الدوائر والمحلات والمستشفيات والمدارس المختلطة والجامعات ونحوها.
والاختلاط على هذا الوجه يتيح تكرر النظر والملاحظة والتعامل والتواصل والعرض والإراءة، وذلك كله يؤدي إلى تركيز النظر والتهيؤ المسبق للإغراء والعرض والمواعدة وإيجاد ذرائع التواصل ونحو ذلك مما يؤدي إلى إشغال فكر أحد الجنسين بالآخر، واقتداء بعض بالآخر من جهة تقارب العمر والاشتراك في سلك واحد ومحدودية البيئة، بينما كان الاختلاط من قبل يقع نوعاً في الأماكن العامة مثل السوق والشارع ونحوهما مما يحدث اتفاقاً ولا يكوّن جواً مهيأً للعرض والإغراء والتواصلات الخاصة.
وقد لوحظ أن كثيراً من الفتيان والفتيات قبل الاختلاط في دراسة الجامعة يتصفون بالنقاء والوقار والاحتشام في القول والمظهر والملبس والسلوك، ولكن كثيراً منهم بعد فترة من الاختلاط يفقد هذه الصفات إلى حد كبير، ويتجه إلى التواصل والعرض والإغراء والاستدراج والاستمالة، ويتنافسون فيما بينهم على الظهور بالمظهر الأكثر جاذبية وإغراءً حتى ربما نشأت أعراف تعتبر الاحتشام تخلفاً، والوقار انقباضاً، والحذر وسوسةً وفقداناً للثقة بالنفس، وتجنب المفاكهة مع الجنس الآخر كآبةً وعزلة عن الآخرين.
ولذلك كانت هناك حاجة ملحّة في هذا العصر إلى معالجة هذا الجانب من خلال تقوية النوازع الفطرية إلى العفاف ورعاية الحدود الدينية والشرعية والتمسك بالأعراف الراشدة والحميدة السائغة بالأسلوب الملائم.
كما أنّ هناك حاجة إلى استحداث أعراف أخرى اجتماعية وأسرية ملائمة للتعامل مع الأدوات الحديثة تحدد الانتفاع بها بحدود ملائمة تقي نوعاً من المحاذير والمفاسد المتوقعة، وهي أعراف يسعى إلى البناء عليها في الأُسر والعوائل المحافظة والملتزمة.
ووجه الحاجة إلى إيجاد أعراف محدّدة لما يليق وما لا يليق في هذا الشأن أنّ الأعراف أدوات مؤثرة في حماية القيم والمصالح النوعية من جهة أنها تكوّن بيئة اجتماعية موافقة لها، وهذا يسهل على الإنسان عملية التربية.
ما أودع في فطرة الإنسان من المشاعر الملائمة لتحديد الاستجابة للآخر:
ولا شك أن ثنائية الرجل والمرأة في الخلق لهي ثنائية رائعة للغاية أريد بها ــــ في ما يهدي إليه التأمل في الخلق وتؤكده قواعد علم الأحياء التي تبين خصائص الكائنات الحية وأسرارها ـــ ضمان بقاء النوع الإنساني وإعداد الإنسان لحياة سعيدة بتكامل الرجل والمرأة.
وقد زُوّد الإنسان من كلا الجنسين في فطرته بصفات متنوعة فيما يتعلق بالتعامل مع الجنس الآخر تجعل له شخصية معتدلة مستقيمة متى كانت فاعلة في نفسه جميعاً كما أريد لها.
فهناك صفة تحثّ الإنسان على التواصل والتفاعل مع الجنس الآخر، وهي مشاعر الانجذاب بين الجنسين، وهذه المشاعر زُرعت في الإنسان لأجل بقاء النوع الإنساني وتكامل الجنسين بعضهما ببعض من خلال تكوين الأسرة.
ولكن هذه المشاعر ليست محددة في حد نفسها بالغايات الحميدة والمآلات الحكيمة، وإنما هي غريزة عمياء تسوق الإنسان إلى إرضائها على سائر الغرائز التي تسوق الإنسان إلى إرضائها بأية وسيلة كانت مثل غزيرة الطعام التي تتحرك عند الجوع وتطلب الاستجابة له من غير تفريق بين أن يكون الطعام حلالاً أو حراماً، وغريزة الجاه التي توجب طلب الإنسان للمكانة على أي وجه كان، ولذلك يجب تحديد هذه المشاعر بحدود راشدة وحكيمة وتذليلها لتكون الاستجابة لها في الإطار المعقول والحكيم.
وهناك صفات أخرى قد زُوّد بها الإنسان في خلقه لتساعده على رعاية حدود ملائمة للانجذاب إلى الجنس الآخر وتجنبه الأضرار المتوقعة من الاسترسال لتتكامل شخصية الإنسان وقوامه بما يحتاج إليه من جاذبية أحد الجنسين للآخر من جهة، وصيانة الإنسان عن الاسترسال في الانجذاب والانفتاح على الآخر من جهة أخرى، وهي صفات ثلاث:
1 ـــ صفة الحياء في الإنسان عن الظهور بمظهر الإغراء للطرف الآخر سواء من خلال القول أو الفعل أو المظهر، وتلك صفة فطرية مشهودة على الإنسان.
وقد كان نصيب المرأة من هذه الصفة بحسب طبيعة تكوينها أزيد من الرجل، لأنها الأكثر جاذبيةً وإغراءً للرجل بالمقارنة مع العكس، لأن صيانتها لنفسها أكثر أهمية، لأنها مصنع الإنسان ومستودعه، وفي داخلها يتكون النسل الجديد وينمو، فصيانتها وحفظها سلامةٌ ونقاءٌ وحفاظٌ على النسل.
2 ـــ صفة الغيرة على الآخر من الوقوع في ما لا ينبغي أن يقع فيه، ولا سيما بالنسبة إلى من يكون تحت رعاية الإنسان، وخاصةً طرف العلاقة معه ـــ من زوجة أو زوج ـــ، وهي صفة فطرية مشهودة بوضوح عند تأمل مشاعر الإنسان تجاه من يرعاه.
وقد كان نصيب الرجل من هذه الصفة بحسب طبيعة تكوينه أزيد من المرأة، لما زوّد به من اهتمام بالمرأة وقوامية بشأنها.
3 ـــ الشعور برقي التعالي عن التصرفات الخاطئة والأخرى الممهدة لها والموجبة للانزلاق إليها، مثل الحرية في العلائق، وبضِعَّة تلك التصرفات والسلوكيات غير المنضبطة، وتلك حالة يجدها الناس بفطرتهم حتى في المجتمعات التي تسعى أن تروج الحرية الشخصية في هذا الشأن، فلا يزال الناس يشمئزون من التصرفات المريبة والعلاقات الخاطئة وينظرون إلى صاحبها بالضِعَّة والانحدار والسقوط وينظرون إلى الضابط لنفسه الراعي للوقار بنظرة الرُقي والاحترام والتقدير والإكبار.
فتلك صفات نفسية زرعت في باطن الإنسان لتهديه إلى السلوك الصحيح وتساعده على اتخاذ هَدْيٍ ملائم، وهي صفة مشهودة في عامة المجتمعات الإنسانية حتى في المجتمعات التي لا تقر بهذه الصفات نظرياً إقراراً مناسباً وتروج للحرية الشخصية في مستوى يضعف الحياء ويمانع الغيرة وينفي التعالي.
ويندرج تجهيز الإنسان نفسياً ـــ من جهةٍ ـــ بصفة الجاذبية بين الجنسين، وبهذه الصفات وبالصفات المحددة للاستجابة لها من جهةٍ أخرى، كما أشرنا في قاعدة بديهية في علم الأحياء ـــ في شأن التكوين البدني والخصائص السلوكية للإنسان ـــ، وهي أن كل خصوصية في الكائنات الحية هي حالة هادفة في تكوينه، بحيث تضمن له ملاءمة خاصة مع مصالح هذا الكائن وتسهّل له حفظه وبقاءه وصيانته عن الأضرار.
وتجري هذه القاعدة الإحيائية في كل الكائنات الحية، وكلما كان الكائن الحي أكثر تطوراً كان نصيبه من تطبيقات هذه القاعدة أوفر وأكثر، فهناك ملايين من تطبيقات هذه القاعدة في شأن الإنسان في كل خصوصية من خصوصيات بدنه من رأسه إلى أخمص قدمه، حيث إن لكلٍ منها دخلاً منظوراً في صلاحه على وجه رائع للغاية حتى أن مظهر الإنسان أيضاً صيغ على وجه جميل من خلال مناسبة موضع الأعضاء الظاهرية وتناسقها ووحدة بعضها كالأنف وتعدد أخرى كالعين واليد والرجل، كما أن الخصائص التي امتاز فيها الجنسان جاءت ملائمة لتكامل الجنسين بشكل مذهل كما يوضح ذلك في علوم الطب وخاصةً في علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء.
والحال في الخصائص النفسية للإنسان كذلك، فهي تركيبة ملائمة للهدي الضامن لمصلحة الإنسان بشكل نوعي، فكانت الجاذبية القائمة بين الجنسين ضرورية لتكوين الأسرة وبقاء النسل، كما كانت صفة الحياء والغيرة والتعالي صفات ضرورية لتحد الدوافع الغريزية في الإنسان وتساعده على رعاية قانون ملائم لمصلحته النوعية.
ولا ريب أن استقامة حياة الإنسان تتوقف على كلا الركنين، فلو أن مشاعر الانجذاب بين الجنسين اختفت تماماً أصيب الإنسان بالخمول والخمود وكان عرضة لعوارض ناشئة عن الشعور بالفقدان كالإفراط في ممارسات أو جوانب أخرى من الحياة، كما تضطرب الحياة الأسرية في حال طروّ هذه الحالة فيها، كما أنها لو انحرفت عن وجهتها حدث أنحاء من الشذوذ والاضطراب النفسي، كما أن مشاعر الحياء والغيرة والتعالي إذا اختفت تفردت مشاعر الانجذاب لتجعل من الإنسان غريزة عارية عن اللياقات الإنسانية الحميدة.
ومن الخطأ الفاحش تهوين صفة الحياء والغيرة والتعالي كما تجري عليه بعض الثقافات المعاصرة، على أساس اعتبار الحياء ضعفاً، والغيرة أنانية، والتعالي ترفعاً واهماً، كلّا، فهذه صفات نبيلة وراقية تهذّب السلوكيات الغريزية للإنسان وتساعده على تقنين الاستجابة لتلك المشاعر بقوانين ملائمة، حتى تكون له شخصية مستقيمة ومعتدلة موافقة مع الصلاح النوعي للإنسان، وهي أساس القدرة على ضبط النفس عن كثير من الأخطاء والخطايا والاتصاف بالعفاف المحمود والسلوك الحميد.
ملاحظات وجدانية راشدة بشأن الاختلاط والتواصل بين الجنسين
وقد لاحظ الإنسان الراشد والحكيم من خلال تجارب واضحة وبديهية في الحياة أموراً ـــ مؤكدة للغاية ـــ ينبغي أخذها بنظر الاعتبار في نظام التواصل والاختلاط بين الجنسين:
1 ـــ أنّ مشاعر الانجذاب بين الزوجين لهي من أقوى المشاعر الإنسانية الغريزية، وليس من شك في أن زرع هذه المشاعر بهذه القوة إنما كان لحكمة منظورة بذلك، وليست تلك الحكمة هي أن يجعل من الإنسان كائناً غريزياً تطغى الغريزة العارية والمستفحلة على حياته، بدليل أنّ هذا الطغيان يؤدي إلى مفاسد يدركها العقل الذي متع به الإنسان والنزوع إلى الحكمة التي زود بها، بل الحكمة في قوة هذه المشاعر هي أن تساعد الجنسين على تحمل أحدهما للآخر في ظل ما تتعرض له الحياة المشتركة من عوارض تنشأ من اختلاف الطباع والأذواق والتربية، وليتحملا ما يترتب على هذه الحياة من وظائف ومسؤوليات وأولاد يحتاجون إلى رعاية وتربية، فتكون قوة هذه المشاعر مانعاً من انفلات عقد الارتباط وتأميناً على استمرار العلاقة الزوجية وضماناً لتحمل المشاق والصبر عليها وداعماً لصوت العقل والحكمة في الإبقاء عليها.
إلا أن هذه الغاية الحكيمة إنما تترتب على قوة هذه المشاعر إذا حصرت قوة هذه المشاعر في طريق مستقيم ينتهي إلى الزواج وتكوين الأسرة والاهتمام بها والعناية بحياطتها وصيانتها والحفاظ عليها، فتكون هذه القوة تأميناً لهذه المسيرة ومذللاً لعقباتها وصعوباتها ومسهلاً للصبر عليها، وفي غير هذه الحالة إذ تنفلت هذه المشاعر فإن قوتها تولد عناءً وشقاءً وضياعاً وتشتتاً وانحرافاً للإنسان وسبباً لإيذاء الآخرين واستغلالهم على وجه خاطئ وذميم.
2 ـــ أنّ هذه المشاعر الغريزية كثيراً ما لا تكشف نفسها للإنسان عند دفعها إياه إلى غاياتها، وهي الوصول إلى الآخر لإشباع الغريزة الخاصة، وذلك تجنباً عن معارضة صفة الحياء والرغبة في التعالي والحذر من رد الفعل الاجتماعي من الاستجابة لها، بل تسلك طرقاً غير مباشرة وملتوية قد لا تظهر حتى للإنسان نفسه في حينه، ولذلك يتلقاها المرء تلقياً ساذجاً وبحسن نية، وربما يضفي عليها عناوين مثل الحب الذاتي للترتيب والجمال والتأنق، والاتصاف بالذوق والطبع اللطيف والرغبة في الإحسان إلى الآخر ونحو ذلك من المعاني الإنسانية الجميلة ، ولكنها تنبعث ـــ وفق السنن النفسية البديهية ـــ عن توجهات غريزية كامنة في العقل الباطن غايتها الحقيقية الانتهاء إلى إرضاء الغريزة من خلال المعاشرة، فهي في حقيقتها أشبه بالفخ الذي يوقع بالغافل فيه، لكي ينزلق صاحبها في مزيد من الاقتراب لتحقيق غايتها ـــ وهي العلاقة غير الشرعية ـــ على حين غفلة من الإنسان من غير تخطيط واع لهذه الغاية ولا التزام بلوازمها ونتائجها وآثارها.
3 ـــ أن الاستجابة لهذه المشاعر قد تبدو خطوات بسيطة ذات آثار محدودة، ولكن نظرة عميقة وشاملة إلى الحياة الاجتماعية وحوادثها تنبّه إلى أن تلك الخطوات البسيطة في بدايتها هي السبب في حوادث وظواهر كارثية من قبيل تفكك الأسرة وتشرد أفرادها وضياع الأطفال وسقط الأجنة، بل ترك الأطفال حديثي الولادة أحياناً في الطرق والممرات.
وتشتمل الحياة الاجتماعية بشكل واضح ومشهود على عبر وأمثال تبين للإنسان كيف أن عدم الحذر من الاقتراب والتواصل تؤدي إلى نتائج كارثية على الشخص وعلى أعزته كالأولاد لم يكن يفكر فيها بتاتاً، وأنه وقع فيها على حين غفلة وانزلق إليها من حيث لا يُقدّر ذلك، ولكلٍ منّا فيما شاهدناه وسمعناه أمثلة عديدة لهذه الحالة، كما أنّ المحاكم القضائية تستقبل في كل يوم العديد من القضايا التي نشأت عن أسباب هي في أوائلها خطوات من هذا القبيل.
لقد وجد الإنسان بفطرته وفي ضمن تجربته في الحياة أنّ من الضروري للإنسان ـــ من أي من الجنسين ـــ أن يكون بجنب المتعة التي يجدها في الاقتراب والتواصل مع الجنس الآخر حَذِراً في ذلك حَذَراً يلائم خطورة المزالق المشهودة في هذا الطريق، وذلك من خلال تقنين الاختلاط والتواصل، وذلك بتأصيل أعراف في شأن الرجل والمرأة تحدد هذا الاقتراب والتواصل بغطاء من الالتزام بالحدود، والوقار والمتانة، وهو يتأكد بطبيعة الحال في ظل توفر وسائل التواصل التي تتيح ذلك بشكل أسهل.
تأصيل مشروعية العلاقة بين الجنسين بالحدود الملائمة:
وقد ابتنى على هذا الأساس الفطري والوجداني وما يتصل به من سنن نفسية وما يترتب عليه من مصالح حياتية فردية وأسرية واجتماعية تأصيل مشروعية العلاقة بين المرأة والرجل وجواز الإغراء بينهما بحدود الزواج وهو تأصيل عابر للمجتمعات الإنسانية عموماً، وذلك استثناءً من قاعدة حرية الإنسان في ممارساته الشخصية، فلم يعد من حق الإنسان أن يقيم علاقة أو يسعى إليها إلا من خلال عقد وثيق والتزام ثنائي بين الطرفين يكون واضحاً وتتحدد فيه غاية إقامة العلاقة بشكل صريح حتى يحسب الإنسان مقتضيات هذه العلاقة وآثارها في شأنه بما عليه من التزامات ولوازمها الاجتماعية الخطيرة، وذلك تحرزاً عن أي أسلوب آخر للعلاقة ينزلق فيها اثنان إلى العلاقة من غير سابق عقد وميثاق استجابةً لرغبة عارمة أو استدراجاً من قبل الطرف الآخر.
وصايا الدين في قواعد التواصل بين الجنسين:
وجاء الدين الكريم مؤكداً على هذا التأصيل المهم في حياة الإنسان محدداً إياه، من خلال التأكيد على وصايا مهمة في هذا السياق.
الوصية الأولى: إيجاب الستر الملائم على الجنسين من حيث أن الإنسان غير المستور بطبيعته يكون مغرياً للآخر ومثيراً له، فأوجب على الرجل الستر اللائق به، وكان نصيب المرأة من الستر اللائق أزيد بالنظر إلى كون المرأة بخصائصها أكثر إغراءً للرجل ـــ بطبيعة خلقة الجنسين ـــ من الرجل للمرأة، وتلك حقيقة واضحة في الحياة، فكان على المرأة ستر ما عدا الوجه والكفين في مشهد الرجل الأجنبي.
وليس الستر الواجب شرعاً بطبيعة الحال ستراً لبشرة الجلد فقط، بل ستراً لمفاتن البدن المغرية للآخر، كما لزم في الستر أن لا يكون بدوره زينة لصاحبه، إذ يكون ذلك بنفسه سبيلاً للإغراء الذي افترض الستر مانعاً من دونه.
الوصية الثانية: تجنب الحركات والأفعال والأقوال المثيرة التي من شأنها كسر حدود الوقار والمتانة بين الجنسين مثل ترقيق القول والتغنج فيه والمفاكهة في الحديث والتصرف على وجه ينبه على ما أخفى من الزينة، ولذلك جاء في القرآن الكريم نهي المرأة عن الخضوع في القول وضربها لأرجلها بما يفصح عن ارتدائها للخلخال، لأن في ذلك إيعازات خاطئة إلى من بمحضرها من الرجال.
الوصية الثالثة: غض النظر عن الجنس الآخر، فلا ضير في نظرة عابرة ومسترسلة وغير ممتلئة حيث تقتضيه طبيعة الحاجات الإنسانية النوعية، ولكن لا تصح النظرة المركزة والممتدة على الآخر، فإن هذا الوقوف على الآخر مدعاة للانجذاب إليه ويوسوس الإنسان إلى مزيد من الاقتراب، ولذلك قال سبحانه: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ...﴾([1])
فهذه وصايا ثلاث مهمة تعتبر مبادئ فطرية بديهية لنقاء العلاقة بين الإنسان.
المضاعفات السلبية للاختلاط غير المنضبط:
ولا شك في أن الاختلاط والتواصل غير المنضبط بين الجنسين هي من أهم المزالق التي تؤدي إلى الاقتراب الخاطئ بينهما والانتهاء إلى غايات ضارة وذميمة وغير شرعية.
وجل المحاذير ـــ التي نشهدها في تضرر الفتيان والفتيات ضرراً يحول دون تحقيق الحياة الأسرية أو يوجب التشويش على هذه الحياة وانهدامها ـــ ناشئة في أسبابها الأوّلية عن وجوه مسترسلة أو خاطئة من الاختلاط والتواصل بين الجنسين.
فالاختلاط من جهةٍ يحيي في الإنسان حب الظهور أمام الآخر بمظهر الإغراء والجاذبية ويتخذ ذلك منحىً صعودياً ساعياً تجربة مختلف المظاهر والأدوات والحركات والمرغبات المثيرة، كما أنه من جهة أخرى يوقف الآخر على هذا المظهر ويتيح له الاطلاع عليه من خلال النظرة بعد النظرة والتي سوف تتخذ أيضاً منحىً صعودياً بتكوين هاجس داخلي متكرر ثم دائم يحث الإنسان على مزيد من النظر والتركيز لينمو هذا الهاجس الداخلي حتى يكون شاغلاً للإنسان ويؤدي إلى السعي إلى مزيد من الاقتراب والاطلاع والعرض متخذاً الأدوات غير المباشرة التي تتخفى وراء غايات أخرى إنسانية أو علمية أو طبيعية لتنتهي إلى تحقيق فرصة للاختلاء مع الآخر ليتحرر من اطلاع الآخرين ورقابتهم ويحقق ما كان يصبو إليه من ممارسات خاطئة.
وكذلك الحال في التواصل الصوتي والكتبي، فهو يبدأ بالمتعة التي يجدها المرء عند التواصل مع الجنس الآخر وإذا توقف عندها ولم يَعْبرها رجا فيها أن تكون باباً للعلاقة وسعى وأمل إلى أن يبدو بمزيد من الجاذبية للآخر لكي يحقق استجابة مناسبة من الآخر فتتولد لديه الرغبة من الانتقال من المشهد العام إلى الخاص إرضاء منه للنوازع الغريزية.
تأصيلات في شأن الاختلاط والتواصل
وهناك عدة تأصيلات ضرورية في شأن الاختلاط وما بحكمه من وجوه الاتصال والتواصل:
(ضرورة الوعي بشأن مضار الاختلاط ومحاذيره)
الأوّل: أنّه ينبغي للمرء تأصيل الاهتمام باكتساب الوعي والتبصر بشأن مضار الاختلاط ومحاذيره المحتملة والمتوقعة، والارتقاء عن التفكير الضيق والمحدود إلى الأفق العام من خلال الاطلاع على السنن النفسية والاجتماعية والاعتبار بالحوادث المختلفة والانتباه إلى ما تعبر عنه من السنن العامة والظواهر التي تتولد عنها.
(ضرورة التقنينات الراشدة بشأن الاختلاط في المستويات التشريعية والإدارية والعرفية والشخصية)
الثاني: أنّه لا غنى للإنسان والمجتمع الإنساني في شأن الاختلاط ـــ أصله وحدوده ـــ من تقنينات راشدة وحكيمة وملائمة فالتقنين هو الحد الذي يضمن المصالح العامة والخاصة ويقي المرء من الإفراط والتفريط.
وقد جاء التقنين الملائم في الدين من خلال تشريعاته الحكيمة والراشدة التي تلائم الفطرة وتنظر إلى الآفاق البعيدة والمزالق المتوقعة.
وتبقى مستويات أخرى ضرورية في شأن ذلك:
1.أنّ على المتصدين لأمور الناس في الدولة في المستوى التشريعي الاهتمام بصيانة المجتمع عن الوقوع في مهاوي الخطيئة والخطأ وفق ما يتاح لهم بحسب الظروف، من غير أن يجعلوا من الاهتمام بهذه الجهات غاية سياسية يتاجرون بها، أو يتساهلوا فيها تقرباً لشريحة من الناس، ومن جملة ذلك حجب المواقع والقنوات الإباحية والرقابة الملائمة على سائر الأمور الفاضحة في وسائل الإعلام أو وسائل التواصل أو في الملأ العام.
2.أنّ على المسؤولين التنفيذيين في مختلف مراتبهم ابتداء من الدرجات العليا إلى مدراء المدارس والمدرسين فيها العناية برعاية مبدأ العفاف وصيانة الاختلاط عن المحاذير وفق صلاحياتهم التنفيذية والإدارية.
3.أنّ على المجتمع العام الاهتمام بالأعراف الواقية عن الخطأ والخطيئة مما يتضمن الرقابة المناسبة والحذر اللائق بهذا الشأن من خلال الأدوات الاجتماعية العامة، فإنّ الأعراف الاجتماعية تسهل رعاية المقاصد الصحيحة ويكون عذراً للفرد تجاه الإحراجات الشخصية.
4.أنّ على الشخص نفسه تقنين سلوكه في الاختلاط وقواعده والتزامه على نفسه بمبادئ يثبت عليها ولا ينصرف عنها حتى تصونه تلك المبادئ عن الوقوع في المحاذير المتوقعة ويصل من خلالها إلى شاطئ الأمان في حياة أسرية نقية وسعيدة ومطمئنة بعيدة عن قلق السوابق الخاطئة والوساوس المؤذية والثبات على الالتزام بين المغريات، وهذا وإن كان صعباً بعض الشيء إلا أنّه أحمد عاقبة، وقلّ شيءٌ مثمرٌ إلا وهو نتيجة الصبر والثبات كما قال سبحانه: [وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]([2]).
وليعلم الفتيان والفتيات أنّ الذي يليق بالإنسان في مقتبل عمره هو أن يهتم بتكوين حياة أسرية مبنية على العفاف والأخلاق والالتزام من دون خوض تجارب مختلفة وممارسة تعلقات عابرة تزيل النقاء النفسي وتكون دائماً مصدراً لهواجس مقلقة ومؤذية تحول دون استقرار الحياة الزوجية كما تدل عليه تجارب الحياة.
(التعامل الحذر من المرء مع نفسه)
الثالث: ينبغي للإنسان تأصيل الحذر تجاه نفسه بمعنى أن لا يثق بها تمام الثقة وذلك بأن يبني أنّه سوف يقاوم مشاهد الإغراء في أي بيئة ومهما كانت الظروف، سواء كان ذلك اعتماداً على أصله ونسبه أو تربيته أو نحو ذلك. فالانزلاق إلى الخطأ والخطيئة أمر مشهود في حالات من هذا القبيل وفق حوادث الحياة، والطبيعة الإنسانية في جميع الناس في أصلها طبيعة واحدة في ما تختزنه من دوافع وتحتمله من خطوات ويمكن أن تؤدي إليه من نتائج، وربّ رغبات كامنة لم تفصح عن نفسها حتى للإنسان نفسه من جهة عدم وجود فرصة مواتية فتكون كامنة في مرحلة اللاوعي، حتى إذا أمنت المحاذير ووجدت البيئة المناسبة تحفزت على حين غُرّة وغفلة من صاحبها فانساق وفقها وخضع لها فكانت نكسة قاتمة تظلل على نفسه وحياته أبداً.
ولأجل ذلك نهى الله سبحانه عن تزكية المرء لنفسه، وحذّر منها ونبّه على أنّ هناك وراء ما يعلمه المرء عن نفسه أبعادٌ لا يحيط بها إلا الله سبحانه، قال سبحانه: [فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى]([3])، ولذلك كان الصالحون على وجل من أنفسهم وهم يكرهون الثناء عليهم في وجوههم، وقد قال الإمام علي (عليه السلام) في خطبة المتقين رغم ما وصفه بهم من صفات جليلة: (إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَه فَيَقُولُ، أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي ورَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي، اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، واجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ واغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ)([4]).
إذن من المهم أن يحذر الإنسان من نفسه بعض الحذر ولا يحسن الظن بنفسه في جميع الأحوال وليجعل من نفسه رقيباً عليها يرصد هواجسها وشواغلها وينتبه إلى تغير سلوكها، ويحذر من تدحرجها إلى الاستجابة لجاذبيات الآخر ويُشعره بالخطر تجاه ذلك.
فإن وجد من نفسه استجابة لجاذبية الآخر مثلاً فإنّ ذلك منبّه لا بدّ أن يشعره بالخطر ولزوم المراجعة والمحاسبة.
وليعلم الإنسان أنّه بنفسه سوف يختلف تفسيره لحركاته وسلوكياته كلما كَبُر عمراً وزاد خُبراً وإحاطة بالنفس الإنسانية ومراهقتها وكوامنها من خلال اتساع الخبرة والوعي والتجربة، وقد يتمنى لو تجنب العديد منها في حينه، لما يجده من وجوه الملاحظة والخطأ عليها أو ما سببته له من تبعاتها وآثارها، وذلك أمر معروف، ومن حكمة المرء أن تكون أحواله متناسقة وأن يكون أوّل أموره ـــ ما تيسر ـــ كآخرها.
(عدم الاسترسال المطلق مع الآخرين والإبقاء على الحذر بعض الشيء تجاه أيّ كان)
الرابع: ينبغي للإنسان تأصيل التعامل الحذر مع الآخرين بأن لا يسترسل في الثقة بهم كل الاسترسال ويغلق أبواب الحذر كل الإغلاق مهما كانت هناك عوامل تدعو إلى استبعاد الخطأ والخطيئة من المحتد الكريم والأصل العتيد والسابقة الحسنة والتربية الجيدة والبيئة السليمة والسيرة المعهودة والظواهر المحمودة والمحبة الشديدة للآخر.
بل عليه أن يُبقي لحدوث الخطأ أو الخطيئة احتمالاً وللحذر باباً يقيه من المفاجئات ويصونه عن المحاذير، فالاسترسال المطلق غفلة وليس وثوقاً وسذاجة وليس طيباً وصفاء، وشتان ما بين السذاجة والطيب: فالسذاجة خلل في الإدراك وضبابية في الرؤية، والطيب سلامة في النفس ونقاء في القلب، وربّ طيّب حذر في سلوكه، وآخر ساذج من غير طيب ولا صفاء، وقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام): (لا تثق بأخيك كل الثقة فإن صرعة الاسترسال لن تستقال)([5]).
وليس بقاء حيّز من الحذر والاحتمال سوء ظن بالآخر، فإنّ محض الاحتمال غير الظن والترجيح، على أنّه قد جاء عن الإمام علي (عليه السلام): (إِذَا اسْتَوْلَى الصَّلَاحُ عَلَى الزَّمَانِ وأَهْلِه، ثُمَّ أَسَاءَ رَجُلٌ الظَّنَّ بِرَجُلٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْه حَوْبَةٌ فَقَدْ ظَلَمَ، وإِذَا اسْتَوْلَى الْفَسَادُ عَلَى الزَّمَانِ وأَهْلِه، فَأَحْسَنَ رَجُلٌ الظَّنَّ بِرَجُلٍ فَقَدْ غَرَّرَ)([6]).
(الحذر من الاختلاط من غير حاجة موجبة له ثُمّ الحذر عند الاختلاط من الاسترسال فيه)
الخامس: أنّه ينبغي تأصيلَ المرءِ لنفسه ولمن يتولى شأنه الحذر من الاختلاط من غير حاجة موجبة له([7]) ثم مراعاة الحذر عند ممارسته، فهذان أصلان مهمان وقاعدتان أساسيتان من قواعد الحياة.
وليس هناك من شك في أنّ الحاجات الإنسانية ـــ وفق طبيعة الحياة ـــ تقتضي بعض الاختلاط في الأماكن العامة كالأسواق والشوارع ووسائل النقل العامة وأماكن الزيارة وغيرها، وكذلك ما تفرضه المراجعة إلى الأطباء عند غياب الطبيب المماثل الوافي بالحاجة، وكذلك المراجعة إلى الدوائر المختلفة والمسؤولين عن الخدمات العامة الحكومية والدينية والإنسانية، كما أنّ الواقع الجاري تضمّن ترتيب كثير من الأمور على وجه مختلط وإن كان ذلك غير ضروري في العديد من الحالات مثل الجامعات وغيرها.
لكن لا ينبغي أن يكون توقف الإيفاء بالحاجات على الاختلاط باعثاً على الاسترسال في الاختلاط واعتبار الاجتماعات المختلطة على حد الاجتماعات غير المختلطة، ولا المبالغة في توقف الحياة المعاصرة على الاختلاط، واعتبار الاختلاط بين الجنسين حالة طبيعية وضرورية دون حدود وقيود، بل لا بدّ من رعاية الموازنة ونوع الاختلاط ومراعاة الحذر على وجه مناسب في جميع الأحوال.
ومن البديهي أنّ لقاء الجنسين يرافق بطبيعته نوعاً الشعور بضرب من المتعة والانجذاب إلى الآخر وما يتفق من التعاطف بين اثنين من جنس مختلف من الثناء والشكر والإعجاب وإظهار الود والمحبة يختلف عمّا يتفق بين اثنين من جنس واحد فهو ينطوي على بُعد غريزي وفق سنن الحياة وإن كان ذلك في البداية في مرحلة من الوعي الخفي أو اللاوعي، وهذا الشعور بالمتعة يستوجب أن يقترن بضرب من الحذر موازٍ لذلك.
وينبغي أن تبدأ رعاية الحذر عن الاختلاط ومراعاة آدابه منذ بداية التميّز عند الطفل، ويزداد أهمية في سنيّ المراهقة وما بعدها حتى الزواج، ويكون مهماً أيضاً بعد الزواج في سنيّ العنفوان والنشاط لدى الجنسين.
والوجه في التأكيد على الحذر في ذلك: هو أنّ أي محذور وقع فيه المرء فإنّه سوف يكون له تأثير نفسي وأسري واجتماعي ممتد وباق عليه وربما أدى وقوع المرء في مزلق مرة واحدة إلى وقوعه في مثله لمرات أخرى لانفتاح باب في النفس لا يسهل عليه إغلاقه، فليس من هاب شيئاً كمن وقع فيه، ومن وقع في شيء وسوست إليه النفس في إعادته كلما ورده هاجس وذلك مما يؤدي إلى وقوع المرء في عناء وشقاء وافتقاده للسعادة التي يبحث عنها ويسعى إليها.
وقد علم عند العقلاء كافة أنّ المحذور المحتمل كلما كان أكبر وأخطر وأشمل وأدوم كان الحذر اللائق عند احتماله أشد وأقوى حتى أنّه يكفي أحياناً الاحتمالات الضعيفة كواحد في المائة أو في الألف إذا كان المحتمل فيها أمراً خطيراً، وتلك بديهة فطرية زوّد بها الوجدان الإنساني كقاعدة للحياة.
(أدب التعامل بين الجنسين وهو الوقار والاحتشام)
السادس: أنّ على الجنسين تأصيلَ التزامِ الوقار والمتانة في السلوك والقول والنظر والمظهر وتجنب الاسترسال والخفة عند التعامل أو التواصل أو الاختلاط مع الآخر، فإنّ الوقار هو المصدّ الأساس للنفس وللآخر عن الاتجاه الخاطئ والانزلاق النفسي والسلوكي إلى الخطأ، كما أنّ الخفة هي مدخل كل خطأ وخطيئة.
ومن مظاهر الوقار هو تجنب المرء الاقتراب والخلوة والخصوصية، وكذلك عدم تقبل مثلها من الآخر، وتعامله مع أية خطوة من هذا القبيل بمزيد من الحذر أو الابتعاد بما ينبه الطرف الآخر على عدم تقبل تلك الخطوة.
(الاهتمام بكسب مهارات الاختلاط السليم)
السابع: أنّه ينبغي للإنسان تأصيل الاهتمام بكسب مهارات الاختلاط السليم عند الابتلاء به، وهي على نوعين:
1.مهارات تتعلق بفن ضبط النفس والتحكم بها عند الاختلاط.
ومن هذا النوع استشعار تقوى الله سبحانه والالتفات إلى كون المرء في محضره وموضع رقابته كما قال سبحانه: [مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ]([8])، وكذلك تقوية العزيمة وإشعار النفس بمؤهلاتها العلمية والإنسانية بدلاً عن التركيز على مؤهلاتها وجاذبياتها الإغرائية والغريزية، والتأمل هنيئة ـــ قبل خطو أية خطوة ـــ في عواقبها وغاياتها وآثارها الاجتماعية وتأثيرها على شخصية الإنسان، ومضاعفاتها المستقبلية على حياته، وكذلك إشغال الإنسان فكره بأمور أخرى مثل المواضيع الدراسية بدلاً عمّا يمليه الاختلاط إلى غير ذلك من المهارات التي تمثل قوة شخصية الإنسان ورقيها.
2.مهارات التعامل مع الآخر الذي يسعى إلى الاقتراب إلى الإنسان واستدراجه، مثل الجرأة في مواجهة الإحراج، والتجنب عن تسليم قياد النفس إلى الآخر، والصمت عند السؤال، وغض النظر عند المخاطبة، وقلة التفاعل عند إظهار الآخر للاهتمام الخاص، وإبداء الأذى والتعجب من مظاهر هذا الاهتمام.
(الانتباه إلى أهمية العفاف)
الثامن: ينبغي انتباه المرء إلى الأهمية الكبرى لأصل العفاف في الحياة والدين، فالعفاف قيمة فطرية ودينية وأسرية واجتماعية راقية ومبدأ أساسي ومهم للغاية، فهو يحقق للإنسان ومن يتكفله وسائر من حوله الطمأنينة والسكينة والنقاء والسلامة والطهارة والاستقرار والسعادة، ويبعد عنه الهواجس القلقة والعوارض النفسية، كما أنّ اختلال العفاف يؤدي إلى تكوين علاقات غير شرعية لا محالة وفق السنن النفسية؛ وذلك يوجب أضرار فردية واجتماعية كبيرة وخطيرة للغاية من قبيل زوال الاستقرار والتفاهم في جو الأسرة بما يلغي فائدتها ـــ وهي الاطمئنان والتكامل ـــ ويؤدي إلى انهدامها. ومما يؤدي إليه اختلال العفاف زيادة العنوسة وقلة فرص الزواج لمن لم يعف وإسقاط الأجنة وتفرق الأطفال وافتقادهم لأحد الأبوين أو كليهما في أثر النزاع والافتراق مما يوجب اضطراباً في شخصية الطفل ومعاناته، ويؤدي إلى إلقاء كلّ الإنسان على غير من يفترض تكفله إياه، كما في رجوع الفتيات والأولاد بعد الزواج إلى بيوت آبائهم مع أطفالهم إلى غير ذلك من المفاسد.
ولذلك ينبغي اهتمام الأفراد والمجتمع بهذا المبدأ اهتماماً بالغاً وترجيحه عند التزاحم على موضوعات أخرى مثل الفرص الدراسية والأنس الاجتماعي والاستجابة للرغبات ونحوها.
وينبغي للمجتمعات الإسلامية والشرقية المحافظة والمعنية بهذا المبدأ الحذر من اتباع أعراف سائدة في مجتمعات أخرى مبنية على التساهل واللامبالاة؛ لأنّ تلك المجتمعات ليست مهتمة بالعفاف ومبادئه مثل الحياء والعزة والتعالي ولا مكترثة بآثاره السلبية مثل العلائق غير الشرعية وضياع الأطفال وسقوط الأجنة وتفكك الأسرة، وإنّما تكمن أولويتها في تحصيل الدخل المادي للفرد وتأمين ممارسة الرغبات الشخصية والغريزية باسم الحرية وتلك حقيقة واضحة.
فليست حال تلك المجتمعات بالتي تحتذى في هذه الناحية ولا ينبغي الخلط في تقييم المجتمعات بين الجوانب المختلفة فيها والتقليد غير المتبصر لما يجري فيها، فقد يكون هناك نقاط قوة في مجتمع ما مثل الاهتمام بالعلم واحترام التخصص وتقدير المواطنة المتكافئة بين الناس بينما تكون هناك نقاط سلبية في ما يتعلق بجوانب فطرية وإنسانية مثل هيمنة النزعات المادية والغريزية، فيكون المجتمع المفترض في مثل ذلك موضع الاعتبار دون الاقتداء.
(توفير مراكز غير مختلطة وتقنين آداب الاختلاط)
التاسع: ينبغي اهتمام أهل البر والمقدرة من أفراد وجهات ـــ وفي مقدمتها الدولة كما إنّ من جملتها إدارات العتبات المقدسة ـــ بتأصيل مبدأ مهم في جملة نشاطاتهم وهو صيانة المجتمع عن وجوه الاختلاط غير الضروري كل بحسب مقدرته ونفوذه وإمكاناته منها على سبيل المثال:
1.استخدام المعلمين والمدرسين من نفس الجنس.
2.السعي في إنشاء جامعات مختصة غير مختلطة تساعد على ابتعاد الفتيان والفتيات عن أجواء الإغراء والإثارة والعرض.
3.عناية النساء المتعلمات بفروع من العلم والمعرفة لتغطية حاجات بنات جنسهن في التعليم والطب وسائر الاحتياجات العلمية والمعرفية بمستوى عال من الكفاءة والمقدرة حتى لا تحتاج النساء إلى مراجعة الرجال فيها.
هذا وأقل مستوى مقبول من هذا الاهتمام الذي ينبغي أن يبذله هؤلاء الأفراد والجهات هو أن يجد الناس ـــ المعنيين بتجنب الاختلاط في أنفسهم وفي من يتولون شأنه ـــ حاجتهم في التعلم والتعليم والتوظيف والعمل في مراكز كفوءة خالية عن الاختلاط، ولا يضطرون للإيفاء بحاجتهم تلك إلى التعلم والعمل في مراكز مختلطة.
وفوق هذا المستوى أن يغطي عدد هذه المراكز حاجات سائر الناس ممن يعتذر عن الاختلاط بعدم وجود مراكز غير مختلطة، على أن يكون مستوى هذه المراكز مشجعاً للالتحاق بها.
وكذلك يجب على هؤلاء الأفراد وتلك الجهات صيانة مواضع الاختلاط الذي لا مناص عنه من خلال القوانين والتعليمات عن المظاهر المغرية والعروض غير اللائقة لا سيما المدارس والجامعات التي يقضي فيها الأولاد أخطر فترة في تنشئة الإنسان وتربيته، وذلك عن طريق ما تتبعه العديد من الدول المتقدمة في العلم والصناعة والاقتصاد من توحيد نمط الملابس وتحديدها على وجه ملائم لإبعاد أجواء العلم عن المؤثرات الغريبة ووقايتها عن أن تكون معرضاً لإثارة الغرائز ووقوع الخطيئة، مع مرونة ملائمة لأحوال الفقراء.
(رعاية الوالدين للأولاد)
العاشر: ينبغي رعاية الآباء والأمهات لتأصيل تربوي مهم وهو الاهتمام بعفاف أولادهم بتجنيبهم لمواضع الاختلاط ما أمكن من خلال انتقاء المراكز غير المختلطة ورعاية سلوكهم فيها عن التصرفات الخاطئة على وجه ملائم، فإنّ ذلك جزء من الرعاية الواجبة عليهم بحسب قواعد الفطرة الإنسانية والدين.
ومن الخطأ بل الخطيئة عدة أمور نشهد وقوعها من الأولياء:
1.إهمال حال الأولاد، وعدم متابعتها على أساس انشغال الأولياء بشأنهم أو حسن الظن بالأولاد.
2.أن تدعو مشاعر المودة والمحبة والرحمة الأولياء إلى الانسياق لرغبات الأولاد في التحرر من القيود والانسياق وراء الرغبات وتقليد الآخرين في أمور غير لائقة.
3.عدم اهتمام الأولياء بالحدود اللائقة على أساس تقديم بعض المطامح العلمية لهم في شأن الأولاد أو مطامح الأولاد أنفسهم على رعاية القيم اللازمة والسلوكيات الملائمة. وهذا كله مع اتباع الأساليب المعقولة والمقبولة في مقام الحذر والنصح والإرشاد.
4.تخلي الأولياء عن مسؤوليتهم في هذا الجانب وإلقاء مسؤولية الأولاد على عاتقهم قبل أن يكتسبوا النضج الكافي في هذا الشأن بتمييز الخير من الشر، والالتفات إلى عواقب الأمور والاعتبار بالحوادث والانتباه إلى مقومات المستقبل السعيد.
(رعاية مبادئ العفاف في داخل الأسرة والأقارب)
الحادي عشر: إنّ من الضروري في داخل الأسرة تأصيل رعاية مقتضيات العفاف حتى بين المحارم، وكذلك رعايته في الاختلاط بين الأقارب والعوائل، فإنّ انتشار عوامل الإغراء والإثارة وتيسرها في هذا العصر وتراجع الأعراف المانعة وملاحظة الحوادث التي تتفق في المجتمع أمور كافية في تيقظ الإنسان وانتباهه لخطورة الاسترسال في ذلك.
(تأكد مراعاة العفاف في شأن الفتيات)
الثاني عشر: أنّ من المهم للفتيات بشكل خاص تأصيل مراعاة العفاف وتجنب الاختلاط ما أمكن والابتعاد عن أساليب الإغراء في حالات الاختلاط التي لا محيص عنها، فالمرأة هي الأكثر تضرراً بالحوادث المنافية للعفاف ابتداء من التصرفات غير اللائقة وانتهاء بالعلائق غير الشرعية على ما أشير إليه في قوله تعالى في حكمة الحجاب: [ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ]([9])، كما أنّ دورها كمصنع للإنسان ووالدة تحتضن الطفل بين أحشائها ثم حاضنة للطفل ومربية له هو الدور الأهم بالمقارنة مع دور الرجل ولذلك تكون سلامتها ونقاؤها وطهارتها أكثر تأثيراً على سلامة الأطفال الذين هم أمهات الغد ورجال المستقبل.
ومن الملاحظ في كثير من الموارد أنّ المرأة تنزلق ـــ من حيث لا تحتسب ولا تريد ـــ إلى السلوكيات الخاطئة والعلائق الآثمة، بينما لم تكن تنوي بمظاهر الإغراء الانتهاء إلى تلك النهايات، إلا أنّ أساليب الإغراء هي لغة الطبيعة والعرف في جذب الطرف الآخر، فلا ينبغي استخدامها على وجه خاطئ كما أوضحت ذلك في (رسالة المرأة في الحياة).
كما لوحظ أنّ المرأة تتسرع في كثير من الحالات إلى التصديق بما يُبدى لها من العواطف بغية التواصل إلى تكوين الأسرة السعيدة المبنية على المودة والمحبة، ولا تميّز بين العواطف الصادقة والرغبات العابرة، فتبتلى بالخيانة المرة والاستغلال المؤذي ممن لا يستحق الثقة، وتلك صرعة الاسترسال التي لا تستقال، وكم من حالات في الحياة يطلع عليها المرء فتملأ النفس هماً وأسى على الفتاة وغيظاً على مَن باشر ذلك أو فرط في شأنها بما أدى إلى تلك النتائج.
(ضرورة استجابة المراهقين لنصائح الوالدين بالتي هي أحسن)
الثالث عشر: ينبغي للأولاد المميّزين والمراهقين من فتيان وفتيات الاستجابة لأوليائهم من الآباء والأمهات في ما ينصحونهم به من مبادئ العفاف وتجنب الاختلاط وكذلك الحذر في حال وقوعه عن الاقتراب من الآخرين والثقة بهم وإقامة العلاقات العابرة.
فالإنسان لا يستغني بضرورة الحياة من الاسترشاد والنصيحة في هذه المرحلة العمرية عن الآباء والأمهات كما لا يستغني نوعاً عن إيفائهم بسائر حوائجه على ما يجده عياناً، فالنفس الإنسانية في هذه المرحلة في طور التطور والتنامي واكتساب قدرات وخبرات جديدة، ومن البديهي في هذه الحالة أن يعتمد على غيره قبل أن تستقر خبراته في الحياة، وخير من يعول عليه الإنسان من جمع نصحاً وخبرة وتجربة في الحياة، ولا يجد المرء أنصح له من والديه نوعاً، فإنّهما يعتبران أنفسهما مسؤولين عن حياة الأولاد ومستقبلهم بل الأولاد عندهما جزء من كيانهما، فسعادتهما وشقاؤهما بسعادة الأولاد وشقائهم، ولا يكون الآخرون بهذه المثابة.
فعلى الأولاد إعانة أوليائهم على تولي أمورهم بالتي هي أحسن كما هي وظيفتهم بحسب الفطرة والدين والعرف الإنساني، ولا يشاكسونهم في نصحهم لهم، فإنّ الحياة تجارب، ومن سعى إلى أن يجرب بنفسه جميع الأمور كان عرضة للوقوع في محاذير لا نجاة منها متى وقع الإنسان فيها ومخالفة الناصح المجرب تورث الندامة وليعلم الأولاد أنّهم غداً آباء وأمهات، وسوف يكون لهم هواجس تجاه أولادهم مثل ما يجدونه لوالديهم، فإن أسس الأولاد لحسن الاستجابة للوالدين في نصائحهما كان ذلك مستتبعاً ـــ غداً عند تكوينهم للأسرة ـــ لحسن اتباع أولادهم لهم ، فعليهم (أي الأولاد) أن يرتقوا إلى ما يليق بهم، ولا سيما أنّ الله سبحانه كلف الإنسان في سن مبكر، إشعاراً له بالمسؤولية تجاه ما يتفق له، فعلى الأولاد ــــ بمستوى إدراكهم وقدرتهم ــــ مسؤولية ما يتفق لهم.
ولتسعَ فئة من الأولاد ـــ فتيات وفتيان ـــ أن يكونوا مثلاً راقياً لسائر من هو في أعمارهم من زملائهم للعفاف والوقار وسائر الخصال الحميدة الواقية عن الاختلاط الذميم، فإنّ أفضل الناس من اقتدى الناس به في معاني الرشد والحكمة والفضيلة، ولهم أجرهم في هذه الحياة ومن بعدها حيث يكتب لهم ثواب كل من اقتدى بهم، ومن لم تبلغ به الهمة أن يكون كذلك فليهتم أن لا يخل بالنصاب اللازم مراعاته في السلوك لتوقي المحاذير عن نفسه وعمّن يتولى شأنه.
وعلى الأولياء اتخاذ الأساليب التربوية الملائمة ومشورة أهل الخبرة والحكمة في طريقة التأثير على الأولاد وسوقهم إلى السلوك الراشد والحكيم.
وبعد فإنّ كثرة المثيرات والمغريات التي تخدش الطهر والنقاء في الحياة المعاصرة وزيادة الأمراض الأخلاقية ـــ وفق التعبير القرآني في قوله: [فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ]([10]) ـــ تجعل من العفاف من أبرز أمثلة الجهاد في الحياة المعاصرة ولا سيما للفتاة التي طبعت على طلب مزيد من التجمل والظهور بمظهر فائق، فمن واظب على العفاف ومبادئه ووقي ما تتوق إليه النفس من التظاهر بعناصر الإثارة والانسياق وراء مغرياتها فقد جاهد نفسه وضمن لنفسه الفلاح، في هذه الحياة وما بعدها.
وإنّ الإنسان المؤمن حقاً من ذكر وأنثى لهو إنسان راق يعيش النقاء والطهارة والسكينة في داخله ويتصف بالوقار والسكينة والمتانة في قوله وسلوكه ومظهره، ويتعالى عن أي أمر يوحي بالسعي إلى إغراء الآخر واستدراجه، ويسعى إلى تكوين الأسرة والشريك الملائم في الحياة وفق قواعد الطهر والالتزام، ويسعى أن يقتدي في ذلك بسيرة المثل العليا للخلق كخير الخلائق محمد (صلى الله عليه وآله) والأئمة الأطهار والزهراء (صلوات الله عليهم أجمعين)، ثمّ بمن يليهم كزينب (عليها السلام) الذين ضربوا بسلوكهم مثلاً يُقتدى به عبر الأجيال.
وقد قال سبحانه في واعيته للإنسان في ما نصح به من وجوه الحكمة ـــ بعد أن نهى نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الخضوع في القول والتبرج بتبرج الجاهلية الأولى وبإقامة الفرائض ـــ: [وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا * إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا * وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا]([11]).
وقال الله سبحانه: [مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]([12]).
3/ رجب/ 1443
الهوامش:
([1]) النور:30.
([2]) سورة الشورى: آية 43.
([3]) سورة النجم: آية 32.
([4]) نهج البلاغة: ص 305.
([5]) الكافي: 2/672.
([6]) نهج البلاغة: 489.
([7]) وقد نهى الله سبحانه الصحابة عن أن يسألوا نساء النبي (صلى الله عليه وآله) متاعاً إلا من وراء حجاب، وجاء عن الزهراء (عليها السلام) (خير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال)، وذلك إشارة إلى تأصيل الحذر وكراهة الاختلاط ما أمكن، من غير نفي للحاجة إلى ذلك عند وجود مقتضياتها.
([8]) سورة المجادلة: آية 7.
([9]) سورة الأحزاب: آية 59.
([10]) سورة الأحزاب: آية 32.
([11]) سورة الأحزاب: آية 34 ـــ 36.
([12]) سورة النحل: آية 96 ـــ 97.