التوبة بتمام معناها الوارد في القرآن من التعاليم الحقيقية المختصة بهذا الكتاب السماوي فإن التوبة بمعنى الإيمان عن كفر و شرك و إن كانت دائرة في سائر الأديان الإلهية كدين موسى و عيسى (عليهما السلام) لكن لا من جهة تحليل حقيقة التوبة، و تسريتها إلى الإيمان بل باسم أن ذلك إيمان.
هذا و قد انجر أمر الكنيسة بعد إلى الإفراط في أمر التوبة إلى حيث كانت تبيع أوراق المغفرة و تتجر بها، و كان أولياء الدين يغفرون ذنوب العاصين فيما اعترفوا به عندهم!
إن الملاك الذي شرعت لأجله التوبة هو التخلص من هلاك الذنب و بوار المعصية لكونها وسيلة الفلاح و مقدمة الفوز بالسعادة كما يشير إليه قوله تعالى: {و توبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} (النور: 31).
التوبة دواء
و من فوائدها مضافة إلى ذلك أن فيها حفظا لروح الرجاء من الانخماد و الركود فإن الإنسان لا يستقيم سيره الحيوي إلا بالخوف و الرجاء المتعادلين حتى يندفع عما يضره و ينجذب إلى ما ينفعه، و لو لا ذلك لهلك، قال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم و أنيبوا إلى ربكم} (الزمر: 54).
و لا يزال الإنسان على ما نعرف من غريزته على نشاط من الروح الفعالة و جد في العزيمة و السعي ما لم تخسر صفقته في متجر الحياة، و إذا بدا له ما يخسر عمله و يخيب سعيه و يبطل أمنيته استولى عليه اليأس و انسلت به أركان عمله و ربما انصرف بوجهه عن مسيره آيسا من النجاح خائبا من الفوز و الفلاح، و التوبة هي الدواء الوحيد الذي يعالج داءه، و يحيي به قلبه و قد أشرف على الهلكة و الردى.
و من هنا يظهر سقوط ما ربما يتوهم أن في تشريع التوبة و الدعوة إليها إغراء بالمعصية، و تحريضا على ترك الطاعة، فإن الإنسان إذا أيقن أن الله يقبل توبته إذا اقترف أي معصية من المعاصي لم يخلف ذلك في نفسه أثرا، دون أن تزيد جرأته على هتك حرمات الله و الانغمار في لجج المعاصي و الذنوب، فيدق باب كل معصية قاصدا أن يذنب ثم يتوب.
وجه سقوطه: أن التوبة إنما شرعت مضافا إلى توقف التحلي بالكرامات على غفران الذنوب: للتحفظ على صفة الرجاء و تأثيره حسن أثره، و أما ما ذكر من استلزامه أن يقصد الإنسان كل معصية بنية أن يعصي ثم يتوب، فقد فاته أن التوبة بهذا النعت لا يتحقق معها حقيقة التوبة فإنها انقلاع عن المعصية، و لا انقلاع في هذا الذي يأتي به، و الدليل عليه أنه كان عازما على ذلك قبل المعصية و مع المعصية و بعد المعصية، و لا معنى للندامة أعني التوبة قبل تحقق الفعل بل مجموع الفعل و التوبة في أمثال هذه المعاصي مأخوذ فعلا واحدا مقصودا بقصد واحد مكرا و خديعة يخدع بها رب العالمين، و لا يحيق المكر السيىء إلا بأهله.
حقيقة التوبة
تفسير معنى التوبة أنها عبارة عن أمور ثلاثة مترتبة الأول منها يقتضي الثاني وهو يقتضي الثالث، وهذه الأمور هي العلم والندم والإرادة المستتبعة للعمل، أما العلم فهو معرفة عظم ضرر الذنوب وكونها هي التي تمنع الإنسان من الوصول الى ما يحبه سواء كان هذا المحبوب دنيوياً أو أخروياً، فإذا عرف الإنسان ذلك معرفة حقيقية بيقين غالب على قلبه، حصل ألم في النفس بسبب فوات المحبوب فإن القلب متى شعر بفوات محبوبه تألم، خصوصاً إذا كان الفوات بسببه هو، ويسمى تألمه بسبب فعله الذي فوت محبوبه ندماً، فإذا غلب هذا الندم على القلب واستولى انبعث من هذا الألم حالة أخرى تسمى إرادة وقصداً بأن يترك الذنب الذي كان يذنبه وبسببه فات المحبوب، وأن يعزم على عدم العودة إليه مستقبلاً بأن يعزم على ترك الذنب الى آخر العمر، فالعلم هو الأول ومطلع هذه الخيرات، والمراد من العلم الإيمان واليقين فإن الإيمان عبارة عن التصديق بأن الذنوب سموم مهلكة فيثمر نور هذا الإيمان مهما اشرق على القلب نار الندم فيتألم به القلب حيث يدرك أنه صار محجوباً عن محبوبه كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان في ظلمه فيسطع النور عليه بانقشاع سحاب او انحسار حجاب فرأى محبوبه وهو لا يقدر على الوصول اليه فتشتعل نيران الندم في قلبه، فتنبعث من تلك النيران إرادة لتدارك ما فاته، علّه يحصل مطلوبه.
إن حقيقة التوبة وشأنها وحكمها من الحقائق الإسلامية العالية والتعاليم القرآنية الراقية، والتوبة هي الرجوع، وقد تكون من العبد فيكون معناها رجوع العبد إلى الله سبحانه بالندامة و الانصراف عن الإعراض عن العبودية، وقد تكون من الله بتوفيق العبد للرجوع إلى ربه أو بغفران ذنبه، وقد أشار تعالى للقسمين بقوله: {..ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} ([1]).
ثم إن توبة الله على العبد أو قل رجوعه عليه تارة بتوفيقه للعبد من خلال توفير الأسباب حتى يتمكن العبد من التوبة و يتمشى له الانصراف عن التوغل في غمرات البعد و الرجوع إلى ربه، وهذه هي التوبة الأولى، وقد أشارت الآية المتقدمة لهذا النوع، وأخرى بالرجوع عليه بالرحمة والحنان و العفو والمغفرة لتطهيره من هذه الألواث، وإزالة هذه القذارات، والورود والاستقرار في ساحة القرب، وهذه هي التوبة الثانية، وإليها أشار تعالى بقوله: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} ([2])، وبين التوبتين منه تعالى توبة العبد فتوبة العبد إذاً محفوفة بتوبتين منه تعالى.
وفي هذا السياق قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} ([3]).
فالإنسان لما كان فقيرا في نفسه لا يملك لنفسه خيرا ولا سعادة قط إلا بربه كان محتاجا في هذا الرجوع أيضا إلى عناية من ربه بأمره، وإعانة منه له في شأنه فيحتاج رجوعه إلى ربه بالعبودية والمسكنة إلى رجوع من ربه إليه بالتوفيق والإعانة، وهو توبة الله سبحانه لعبده المتقدمة على توبة العبد إلى ربه كما قال تعالى: {ثم تاب عليهم ليتوبوا} (التوبة: 118)، وكذلك الرجوع إلى الله سبحانه يحتاج إلى قبوله بمغفرة الذنوب وتطهيره من القذارات وألواث البعد، وهذه هي التوبة الثانية من الله سبحانه المتأخرة عن توبة العبد إلى ربه كما قال تعالى: {فأولئك يتوب الله عليهم}.
وإذا تأملت حق التأمل وجدت أن التعدد في توبة الله سبحانه إنما عرض لها من حيث قياسها إلى توبة العبد، وإلا فهي توبة واحدة هي رجوع الله سبحانه إلى عبده بالرحمة، ويكون ذلك عند توبة العبد رجوعا إليه قبلها وبعدها، وربما كان مع عدم توبة من العبد كما يمكن استفادة ذلك من قوله: { وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} وأن قبول الشفاعة في حق العبد المذنب يوم القيامة من مصاديق التوبة ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}.
وكذلك القرب والبعد لما كانا نسبيين أمكن أن يتحقق البعد في مقام القرب بنسبة بعض مواقفه ومراحله إلى بعض، ويصدق حينئذ معنى التوبة على رجوع بعض المقربين من عباد الله الصالحين من موقفه الذي هو فيه إلى موقف أرفع منه وأقرب إلى ربه، كما يشهد به ما يحكيه تعالى من توبة الأنبياء وهم معصومون بنص كلامه كقوله تعالى: {فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ}: (البقرة: 37).
وقوله تعالى: { وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت وَإِسْمَاعِيل} - إلى قوله -: { وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 128).
وقوله تعالى: حكاية عن موسى (عليه السلام): {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (الأعراف: 143). وقوله تعالى خطابا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (المؤمن: 55).
وقوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} (التوبة: 117.)
وهذه التوبة العامة من الله سبحانه هي التي يدل عليها إطلاق آيات كثيرة من كلامه تعالى كقوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} (المؤمن: 3). وقوله تعالى: {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (الشورى: 25) إلى غير ذلك.
فتلخص مما مر:
أولا: أن نشر الرحمة من الله سبحانه على عبده لمغفرة ذنوبه، وإزالة ظلمة المعاصي عن قلبه - سواء في ذلك الشرك وما دونه - توبة منه تعالى لعبده وأن رجوع العبد إلى ربه لمغفرة ذنوبه وإزالة معاصيه - سواء في ذلك الشرك وغيره - توبة منه إلى ربه.
ويتبين به أن من الواجب في الدعوة الحقة أن تعتني بأمر المعاصي كما تعتني بأصل الشرك، وتندب إلى مطلق التوبة الشامل للتوبة عن الشرك والتوبة عن المعاصي.
وثانيا: أن التوبة من الله سبحانه لعبده أعم من المبتدئة واللاحقة فضل منه كسائر النعم التي يتنعم بها خلقه من غير إلزام وإيجاب يرد عليه تعالى من غيره، وليس معنى وجوب قبول التوبة عليه تعالى عقلا إلا ما يدل عليه أمثال قوله تعالى: {وَقَابِلِ التَّوْبِ} (غافر: 3). وقوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} (النور: 31).
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} (البقرة: 222)، وقوله: {فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} الآية من الآيات المتضمنة لتوصيفه تعالى بقبول التوبة، والنادبة إلى التوبة، الداعية إلى الاستغفار والإنابة وغيرها المشتملة على وعد القبول بالمطابقة أو الالتزام، والله سبحانه لا يخلف الميعاد.
ومن هنا يظهر أن الله سبحانه غير مجبور في قبول التوبة بل له الملك من غير استثناء يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فله أن يقبل ما يقبل من التوبة على ما وعد ويرد ما يرد منها كما هو ظاهر قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} (آل عمران: 90) ويمكن أن يكون من هذا الباب قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا} (النساء: 137).
([1]) التوبة: 118.
([2]) البقرة: 160.
([3]) النساء: 17 ـ 18.