يبتنى كلام شحرور على عدم الاعتراف بحجية السنة، وهذا ما لا يمكن التسليم به لكونه باطل بالضرورة، فقد دلت آيات القرآن بما لا يدع مجالاً للشك على حجية سنته، مثل قوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب).
إلا أن شحرور يفرق بين مقام الرسول ومقام النبي ويعتقد أن الرسول مأمور بتبليغ الرسالة وهي القرآن الكريم أما النبي كبشر فهو غير معصوم وبالتالي ما يأمر به أو يفعله لا يكون تشريعاً ملزماً، حيث يقول شحرور في ذلك: (ومن هنا فنحن لا نجد في التنزيل الحكيم أمراً بطاعة محمد البشر الإنسان، ولا أمراً بطاعة محمد النبي، بل نجد أكثر من أمر بطاعة محمد الرسول.. لماذا؟ لأن الطاعة لا تجب إلا للمعصوم، ومحمد الإنسان ليس معصوماً، ومحمد النبي ليس معصوماً، ومحمد الرسول هو المعصوم في حدود رسالته حصراً الموجودة في التنزيل).
ويتضح من كلامه أنه جعل العصمة للرسول بسبب التبليغ وهذا كلام باطل بعدة وجوه:
1- إذا كان التبليغ بمعنى أستلام القرآن من الله وتسليمه للناس من غير أي دور أضافي للرسول، فإن تلك المهمة لا تتوقف على العصمة حيث يمكن للإنسان الذي تتوفر فيه العدالة والصدق وعدم الكذب القيام بذلك، فالرسول الصادق في حديثه والأمين في نقل ما استحفظ به قادر على تلك المهمة من غير أن يتوقف الامر على عصمته، وعلى ذلك لا يكون كافياً ترتيبه العصمة على التبليغ طالما الدرجة الأدنى تكفي لذلك.
2- ربط عصمة الرسول بتبليغ الوحي فحسب يقود إلى إهمال إي دور للرسول غير التسلم والتسليم، وهذا مخالف لما صرح به القرآن من أدوار أخرى للرسول، مثل قوله تعالى: (يتلوا عليكم آياته ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) فإذا كانت التلاوة هي تبليغ القرآن وايصاله إلى الناس، وكانت العصمة خاصة بهذه المهمة، فكيف نفهم المهام الأخرى مثل التزكية والتعليم؟ إذا كيف لغير المعصوم أن يقوم بدور التزكية؟ فمن يزكي غيره آلا يكون زاكياً في نفسه طاهراً من كل دنس وعيب؟ وإذا كان دوره فقط تبليغ الكتاب فلماذا أمره تعالى أن يعلمنا الكتاب؟ وتعليم الكتاب مهمة إضافية تختلف عن مهمة الإبلاغ؛ فلو كانت مساوية للإبلاغ يكون ذكرها تحصيل للحاصل، وإن كان تعليمه للكتاب زائد على التبليغ؛ فإما أن يكون معصوماً في تعليمه وأما أن يكون غير معصوم، فإن كان معصوماً ثبت المطلوب وإن لم يكن معصوماً فقد يعلمنا ما يكون مخالفاً لما أراد الله وهذا نقض للغرض.. ففي كتاب الله أحكام وحقائق تحتاج إلى بيان وتعليم رسول الله، وإذا كان غير معصوم في تعليمه للكتاب فكيف نضمن ألا يعلمنا ما هو مخالف لما أراده الله؟ وكذلك الحال في تعليمه الحِكمة، فإذا لم يكن معصوماً في تعليمه الحِكمة فقد يعلمنا ما هو مخالف للحِكمة وهكذا.. فجعل العصمة ضرورية في التبليغ دون غيرها من المهام ليس صحيح
3- إذا كانت مهمة الرسول فقط هي تبليغ الوحي، وكان واجبنا اتجاهه يتلخص في تصديقنا بالقرآن الذي جاء به، فحينها كيف نفهم قوله تعالى: (ربنا امنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين) حيث يصبح كلمة واتبعنا الرسول تحصيل للحاصل طالما كان اتباع الرسول يتلخص في الإيمان بالقرآن، وحينها تكون الآية كالتالي: (ربنا امنا بما أنزلت وامنا بما نزلت فكتبنا مع الشاهدين) وكذلك قوله تعالى: (والذين استجابوا لله والرسول من بعد ما اصابهم القرح..) إذا كانت الاستجابة لله هي في الايمان بما انزل والعمل به، فكيف تكون الاستجابة للرسول؟ وإذا كانت الاستجابة للرسول هي تصديق ما أنزل اليه فكيف تكون الاستجابة لله؟
4- قال تعالى: (تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات ...) إذا كانت حدود الله كلها في القرآن ولا توجد لله حدود خارج القرآن فلابد ان تكون الآية (تلك حدود الله ومن يطع الله يدخله جنات...) فما هو ضرورة طاعة الرسول في هذه الآية طالما الرسول ليس له حدود غير حدود القرآن؟
5- قال تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله والي الرسول ...) فالآية تفرق بين أمرين، الأول: هو تعالوا إلى ما أنزل الله وهو القرآن الكريم، والثاني: تعالى إلى الرسول، فإذا كانت مهمة الرسول محصورة في تبليغ القرآن يكون ذكره في الآية تكرار بلا مبرر، وعليه يصبح تفسيرها بحسب رأي شحرور كالتالي: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله (القرآن) والي الرسول (القرآن) أي تعالوا إلى القرآن والقرآن. وهكذا إذا تتبعنا كثير من الآيات القرآنية يتضح أن للرسول دور أخر غير تبليغ القرآن وهو سنته التي يجب الالتزام بها.
ويبدو أن الخلط في معنى العصمة هو الذي ساقه إلى الوقوع في مثل هذا الضلال، حيث اعتقد أن العصمة هي تحكم في فعل الإنسان من غير إرادة منه واختيار، أي أن الله يتدخل ليمنعه من الخطأ في أشياء ولا يتدخل في أشياء أخرى، وهذا خلاف طبيعة العصمة، فالعصمة هي ملكة ينالها الإنسان وبها يعصم نفسه من الخطأ، وليست أمراً خارجاً عنه وتتحكم في أفعاله من بعد، وعليه متى ما نال الإنسان العصمة يكون معصوماً في كل شيء ولا يكون معصوماً في أشياء وغير معصوم في غيرها، أي أن الإنسان الحائز على درجة العصمة تكون كل افعاله قائمة على هذه العصمة، ولا تعني ابداً أن الله يمنحه العصمة في التبليغ وينزعها عنه في غير التبليغ لأنها مرتبطة بالمعصوم نفسه وليست مرتبطة بشيء خارج عنه، ولو صح فهم شحرور للعصمة لجاز أيضاً للفاسق والفاجر والمنحرف وصاحب كل صفة ذميمة بأن يعصمه الله عندما يبلغ الرسالة طالما كانت العصمة أمر خارجي وليست لها علاقة بالشخص، وطالما كان شخص الرسول لا قيمة له ولا اعتبار كما يزعم، وحينها ليس من الضروري في الرسول أن يكون صحاب مناقب ومكارم ومكانة عالية في نفسه لأن الله هو الذي يتدخل ويجعله معصوم عند التبليغ وهذا خلاف سنة الله في اصطفاء خيار عباده للقيام بمهام الرسالة، وعليه فان شخص الرسول هو المعصوم وذلك لوصوله إلي درجة من الطهر والطهارة والعلم والذوبان في الله جعلته معصوماً وعلى ذلك لا يمكن تقسيم العصمة وتجزئتها.
ولو سلمنا بزعمه وكانت العصمة خاصة فيما يبلغه الرسول من رسالة الله، حينها نسأل عن الدليل الذي يجعل رسالة الله محصورة في القرآن فقط، ونحن لا نجد في آيات القرآن آية تحذرنا من أتباع الرسول في غير القرآن أو تنبهنا بضرورة اجتنابه وعدم الأخذ بأقواله التي تصدر منه شخصياً، بل على العكس تماماً حيث نجد تأكيد القرآن على ضرورة أتباع الرسول مطلقاً بحيث لم تحدد لنا شرطاً واحداً في اتباعنا له، فإذا كان هناك جانب رسالي في الرسول وجانب بشري أليس من المفترض أن تنبهنا آيات القرآن عن ذلك حتى لا نقع في الخلط في ما يصدر منه بين جانبه الشخصي وجانبه الرسالي؟ فعدم تفكيك آيات القرآن بين الجانبين الشخصي والرسالي، أما أن يكون بسبب أن الله أراد أن يوقعنا في الضلال وذلك باتباعنا للجانب الشخصي في الرسول، وإما بسبب أن الرسول ليس له إلا جانب واحد وهو كونه رسول وعليه كل ما يصدر منه يكون تشريعاً إلا إذا هو نفسه قال أن هذا الامر ليس تشريع ..
وقد أكد القرآن على أن كل ما يصدر عن الرسول إنما هو وحي من الله تعالى حيث قال: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ. إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) وقد نفت الآية بشكل مطلق أن يكون نطق رسول الله عن هوى، وبالتالي لا يصح كلام شحرور وأمثاله بأن النطق في الآية خاص بنطقه بالقرآن فقط، فلو صح قولهم لكان لرسول الله نحوان من النطق، الأول: هو نطقه بالقرآن وهو النطق الذي يكون من غير هوى، والثاني: هو نطقه بغير القرآن وهو أما أن يكون عن هوى حتماً أو يكون على الأقل نطق غير معصوم عن الوقوع في الهوى، وفي هذه الحالة كان يجب على الله أن يحذرنا مما ينطق به الرسول بهواه (نستغفر الله عن قول ذلك) إذ كيف يأمرنا باتباع الرسول بشكل مطلق في الوقت الذي يتوقع منه أتباع هواه؟ وكيف يأمر الله رسوله بتعليمنا الكتاب والحِكمة وهو لا يأمن من أن يعلمنا ذلك بحسب هواه؟ أليس هذا هو الضلال المبين؟
وفي المحصلة لا يمكن مناقشة فكرة شحرور حول حصر المحرمات في كتاب الله إذا لم نناقش حجية قول الرسول، فإذا نفينا حجية سنته يصح كلامه، وإذا أثبتنا حجيتها حينها لا تكون الاحكام محصورة في القرآن فقط وإنما تشمل السنة أيضاً.