ينشر «موقع الأئمة الاثني عشر» مقالاً جديداً لسماحة آية الله السيد محمد باقر السيستاني عن أولويات الشباب في الحياة ومنها السعادة والفضيلة، أدناه نص المقال كما ورد:
الشباب وأولويات الحياة:
السؤال:
ما هو التوجيه الملائم للشباب على وجه ميسّر حتى لا يضيعوا وحتى يسيروا في مسيرة صحيحة وصائبة، وكيف يهتدي الشاب إلى تنظيم حياته وأولوياته فيها ويرجح الأهم منها؟
بسمه تعالى:
إنّ من الضروري أن يكون خطاب الشباب خطاباً راشداً مبنياً على العقلانية والنصح، لأن الإنسان كائن عاقل، فإذا أثيرت له كوامن عقله ودفائنه وعى واستجاب، وإذا كان الخطاب بلغة النصح بمعنى النظر إلى مصلحته لا مصلحة من يخاطبه مثل الأب والمعلم، ولا من منطلق الفرض والقهر نفذ الخطاب في قلبه واهتزت مشاعره وانساقت نفسه.
وملاحظة أولويات الحياة وترجيح الأهم منها مدخل مناسب لانتباه الإنسان إلى الاهتمام والسلوك اللائق به منذ بدايات الرشد في عمر المراهقة وحتى آخر عمره، لأنها قضية فطر الإنسان عليها ولا تحميل عليه فيها، فهو يذعن بها إذا خوطب بها، لأنه يكون تذكرة فحسب، وليس قضية نظرية تحتاج إلى استدلال.
لكن من الضروري بيان ارتباط هذه القضية بمفردات الحياة وانطباقها عليها لتكون منهجاً وسلوكاً للإنسان.
وفي هذا السياق ننبه على أن أولويات الحياة للإنسان تدور مدار مفردتين([1]) فطر الإنسان على طلبهما: السعادة، والفضيلة.
فالسعادة هي مفهوم واضح، وهو أن يعيش الإنسان الراحة والرفاه والمتعة، ولا يعيش الشقاء والعناء والأذى والمكروه والألم والقلق والخوف والضيق.
ولكن من البديهي أن الحياة لا تخلو عن مكروه وأذى كالأمراض والحوادث المؤذية وعدوان الآخرين.
وعليه: فإنه لا يسع الإنسان أن يتوقى كل أذى ويعيش الراحة المطلقة، ولكنه ينبغي أن يختار الأهم والأدوم والأوثق، ولا يقدم متعة عاجلة على ضرر باقٍ وعناءٍ يدوم.
وأما الفضيلة فهي القيم الراقية التي فطر عليها الإنسان التي يجد الإنسان اندفاعاً إليها لذاتها، وليس تحرياً لسعادة أو مصلحة أو دفعاً للضرر، مثل العدل والصدق والوفاء بالعهد والعفاف والإحسان والرحمة والأدب وأخواتها، وهي أيضاً أمور بديهية فطر الإنسان عليها كما قال سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}([2]).
وأهم العناصر الدخيلة في السعادة الأبقى والأدوم للإنسان والفضيلة اللازمة له هي عدة عناصر تمثل حاجات عميقة ومستمرة للإنسان وتضمن له السير على المبادئ الفاضلة في الحال نفسه، وهي بذلك أركان حياة الإنسان وبُناه ودعائمه وأسسه، ومثلها بالنسبة إلى كيان الإنسان مثل أسس البناء بالنسبة إليه، وهي أربعة أسس:
الأساس الأوّل: العقيدة الراشدة بالإيمان بالله سبحانه والدار الآخرة والرسل والأوصياء، وما يستتبعها من ممارسات مثل الإتيان بالفرائض وزيارة المراقد وحضور المآتم وتجنب المآثم.
فهذا الأمر هو الأساس الأوّل للسعادة المستدامة وهو أعمق أركانها وأبعدها تأثيراً في سعادة الإنسان من حيث العمق والامتداد لعدة أسباب، منها:
أوّلاً: ـــ وهو الأهم ـــ إنه يتصل بالخلود، إذ بها يستبين السبيل المستقيم في هذه الحياة، ويجد الإنسان ربه، كما يجد به الرسالة المبعوثة من قبله التي تشتمل على الإنباء باليوم الآخر، والمثل العليا في الحياة، ولا سعادة للإنسان إذا كان خالداً إذا أهمل الآخرة فلم يستعد لها مهما عاش من المتع واللذائذ في هذه الدنيا، كما قال سبحانه: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ}([3])، {وَمَا هَـذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}([4]).
ثانياً: أن التعاليم الدينية تستجيب لحاجات الإنسان على الوجه الأمثل، فهي توفر الحاجات الروحية والمعنوية وترسم للإنسان المثل الأعلى، كما إنها تقي الإنسان من كثير من المفاسد من الفواحش والموبقات، كما نلاحظ ذلك في العديد من الشباب الملتزمين بالمقارنة مع آخرين وقعوا في مفاسد نتيجة ضعف الالتزام بالدين([5]).
ثالثاً: إن من عرف الله سبحانه اطمأن به واستكنّ إليه وأمل فيه وتوكل عليه واستعان به، وهو سبحانه مستجيب لعبده، ذاكر له، معنيّ برجائه ودعائه وفق ما تسعه مقاديره لهذه الحياة، كما قال سبحانه: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}([6])، وذلك مما يزيد سعادة الإنسان في هذه الحياة كما نجده لدى المؤمنين بالدين.
ثمّ العقيدة الصحيحة والعمل الصالح عماد للفضيلة أيضاً، لأن معرفة الله سبحانه والإذعان به وبرسالته ورسله وأوصيائهم شكر لله سبحانه الذي يدين له المرء بالإنعام في أصل وجوده ثمّ في كل ما يتمتع به من وجوه النعم والإحسان إذ هي بين ما كانت جاهزة له لا دخل له في صنعه كوجود الأبوين وعطفهما، وما كان له دخل فيها ولكن كانت مباديها وأدواتها كلها من الله سبحانه، كما قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}([7])، وقال سبحانه: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّـهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}([8]).
الأساس الثاني: ـــ لحياة الإنسان ـــ تكوين الأسرة السليمة من خلال زوج أو زوجة وأولاد.
فذلك ركن آخر أساس للسعادة، إذ الإنسان قد فُطر في جسده وتكوينه النفسي على الحياة الأسرية، فلا تنقضي طفولته ويصل إلى سن البلوغ إلا ويتهيأ نفسياً وجسدياً لتشكيل الأسرة وتبرز فيه مبادئه ونوازعه حتى إذا نضج بعد مرور فترة المراهقة تزوج وعاش حياته كلها مع أسرته يسعد ويشقى معهم ويجده قَدَرَهُ مرتبطاً بهم، ولو تأمل المرء أحوال والديه وأقاربه وسائر من حوله لوجد ذلك عياناً.
ولذلك على الإنسان منذ أوّل مراتب الرشد عند المراهقة أن ينتبه إلى أنه يتحرك إلى تكوين الأسرة، وتكوين الأسرة يقتضي أن يكون للإنسان شخصية لائقة ومحترمة في داخل أسرته وفي المجتمع العام، ليصلح أن يكون رجلاً يرعى الأسرة وينفق عليها ويربي الأولاد ويوصلهم إلى الحياة المستقلة على وجه لائق، أو تكون امرأة تصلح أن تكون عماداً للأسرة وحاضنة للأولاد ومربية لهم حتى استقلالهم لحياتهم الخاصة.
وهذه اللياقات إنما تحصل بالتربية الحسنة المبكرة من قبل الأبوين منذ الطفولة ثم اهتمام المرء نفسه منذ الرشد على مزيد من التعقل والاستيعاب لمقتضيات الحياة ومعرفة الطريقة السالكة والحذر عن التجارب المريرة التي تورث الندامة حين لا مندم.
ومن الخطأ ما يفعله بعض الآباء والأمهات من ترك الطفل حراً حتى يكبر، ويقولون في مثله: (دعه ليتنفس) و(هناك وقت حتى يكبر)، وذلك لأن الطفل لا بدّ أن يكون له مساحة من الحرية لكنه لا بدّ أن يتلقى مع ذلك التربية السليمة بالطرق الملائمة منذ بدايات صلوحه لمعرفة الأشياء واكتساب العادات، إذ يستحيل تغييره عما رسخ فيه من ذهنيات وعادات وسلوكيات لاحقاً، وكم من فتى أو فتاة شقي بعدم التربية السليمة والوقوع في التجارب الضارة التي لا تنمحي آثارها السلبية على نفس الإنسان، ولم ينجح في توفير أركان السعادة في الحياة الأسرية والعامة في أثر ذلك، وكم من فتى أو فتاة تعهد والداه بتربيته ورعايته على وجه ملائم فنبت نباتاً حسناً وكان رائعاً في شخصيته وسمته وسلوكه وفهمه، ولكلٍ نماذج مشهودة للجميع.
إذاً تكوين الأسرة ركن أساس للسعادة، لأن الإنسان إنما يحيى ويعيش ويسعد مع أسرته التي يكوّنها، فهو طيلة عمره يكون قرين هذه الأسرة، ولا مناص له عن ذلك، فإن عاش المرء سعادة في أسرته فتلك الجزء الأهم من السعادة في الحياة وإن كان هناك مشاكل خارج الأسرة.
كما أن تكوين الأسرة ركن أساس لرعاية الفضيلة، لأن للإنسان حوائج جسدية ونفسية فُطر عليها، فإن استجاب لها وفق ما خطط له في فطرته استطاع الحفاظ على المبادئ التي زُوّد بها وفُطر عليها، وإلا ابتلي بوجوه من الانحراف والخطيئة والعقد النفسية الناشئة من الحرمان، وذلك مما يوجب ممارسة الإنسان لأنواع من الظلم والعدوان والازدواجية والشذوذ والانحراف وكثير من الخطايا، ولذلك جاء في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أن من تزوّج أحرز نصف دينه.
فالزواج الملائم نعم العون على رعاية الفضائل وتجنب الرذائل ومراعاة الحدود والاستقامة في السلوك، ومن تجنبه كان عرضة لوجوه من الخطايا أو الأخطاء.
وقد يعتذر بعض الناس بأنه لا يجد الزوج المناسب أو الزوجة المناسبة، والواقع أن هذا الأمر يمكن أن يتفق في بعض الأحوال، ولكن كثيراً ما ينشأ هذا القول عن عدم البحث الكافي والجد في الطلب، أو التمسك بما لا يتاح، أو حصر النفس بخيار غير ملائم. ومن أمثلة ذلك:
١- أن الفتى قد يرغب في أن يتزوج بفتاة اختارها في الجامعة، لكنه يستحيل أن يصل إليها إلا بما يضر بها ويحطمها ويفسد حياتها وهو يؤثر على حياته أيضاً، ومن الغلط أن يصر الشخص على أن يديم المسيرة في طريق مسدود.
٢- أن يصر على التمسك بفتاة لا تقتنع بإمكاناته وراتبه مع أنه لا يستطيع في ظروفه أن يستزيد منها، والمفروض أن يرفع الشاب اليد عن هذه الفتاة في هذه الحالة لأن موقفها هذا لا يخلو أن يكون من جهة عدم تقديرها لظروفه، فذلك من سقم المودة، أو يكون من جهة عدم استطاعتها حسب ما اعتادت عليه أن تقتنع بمثله، فلا يكون هذا الشاب أولوية لها بالمقارنة مع العناصر التي تفتقدها فيه، وفي كلا الحالين فلا جدوى في هذا التمسك.
وكثير من العلقات من هذا القبيل لا تتجاوز رغبات غريزية نابعة عن ضرب من الذوق الجمالي والتفاعل الأكثر، وليست حدوداً حكيمة ينبغي تقيّد المرء بها وتقييد مستقبله بنطاقها، ومن يتحرر منها ويبحث يجد مراغماً كثيراً وسعةً وتنوعاً في الخلق، ورُبّ جمال واستجابة لم يستتبع السعادة والمودة المرجوة للمرء كما هو الحال فيما إذا لم يقترن بالأصالة والتحمل والصبر وروح المودة بل كان وبالاً وأوجب شقاءً، فلا ضير في الاعتبار بالجمال والترجيح به ولكن لا يصح اعتباره العنصر الأهم عند تزاحم الجهات، فالجمال الروحي والخصال النفسية المناسبة وروح المسؤولية وتقديس الحياة الزوجية أهمّ وأحرى.
هذا، وليس من مقتضيات إلفات نظر الشباب إلى أهمية الزواج في حياة الإنسان القبول بتهييج الرغبات الخاصة والتعلقات العاطفية والارتباطات الخاطئة والإغراءات المتكلفة مبكراً، فإن ذلك كله خطأ فاحش قبل النضج والزواج، بل يوجب الوقوع في الأزمات النفسية والتجارب المبكرة الضارة والسلوكيات التافهة والشواغل اللاهية عن الاهتمامات الأسرية والاجتماعية والدراسية، وإنما المقصود بما ذكرنا الالتفات إلى تحرك الإنسان بحسب سنن الحياة المشهودة إلى الاستقلال عن الأهل وتكوين الأسرة ومسؤولياتها كما يشهده الأطفال بملاحظة من حولهم.
الأساس الثالث: ـــ لحياة الإنسان ـــ تحصيل الرزق وما يتوقف عليه من وجوه التعلم وكسب المهارات.
فهذا أيضاً ركن أساس مهم للسعادة، لأن الإنسان بحاجة إلى توفير المأكل والملبس والمسكن والعلاج وغيرها لنفسه ولأسرته، والمفروض به منذ اكتمال قوامه وبلوغ المراهقة أن يتهيأ لذلك بالتعلم والتخصص أو كسب المهارات الأخرى حتى يستطيع أن يفي بذلك.
والحاجة إلى الرزق حاجة أساسية في سعادة الإنسان، تنبثق منذ بلوغه حد القدرة على العمل والتكسب حتى آخر عمره، فهو لا يستغني عن مكسب يدرّ عليه المال ولو بما يبلغ الكفاف لنفسه ولأسرته، ولا يصح تعويل المرء فيه على آخر حتى لو كان أباه، لأن ذلك إن حصل لبعض الوقت كان مؤقتاً، وربما عوّل المرء على أبيه لفترة تعوّد عليه فتكاسل عن العمل، على أنه لا يحسن بالمرء أن يكون كَلاًّ على غيره في جميع الأحوال، بل الأصل أن يكفي نفسه بنفسه ويعتمد عليها.
كما أن الحاجة إلى الرزق أساس للفضيلة، لأن العوز أساس كثير من الخطايا مثل الخيانة والسرقة والكذب والخديعة والتلبيس وسائر وجوه أكل المال بالباطل، كما أنه قد يؤدي إلى تزلزل العقيدة أو ضعفها، وتعذر الزواج فيوجب خطايا أخرى.
إذاً يجب على كل شاب منذ المراهقة أن يفكر بتحصيلِ سبيلٍ للكسب ويتهيأ له، ويصرف الوقت في التعلم أو كسب المهارات حسب الاستعدادات الذهنية والنفسية والإمكانات المتاحة، كما أن عليه أن يتعلم الاقتصاد في الحياة والقناعة بالكفاف حتى يستطيع أن يعيش ما يتاح له في الحياة من السعادة.
ولا ينبغي للمرء أن يتقيد بسبيل خاص إلى الارتزاق مثل الدراسة الجامعية وما يتفرع عنها، وكالتوظيف في الدوائر الحكومية، فإن ذلك أمر غير ميسر لجميع الناس بطبيعة محدودية إمكانات الدولة واختلاف المطامح والاستعدادات والنفوس والإمكانات، بل المهم أن يكون الشخص ملائماً مع عمله حريصاً عليه متقناً له مقتنعاً به في إدارة ما يحتاج إليه.
الأساس الرابع: ـــ لحياة الإنسان ـــ التعامل اللائق مع الناس في الاجتماعات الخاصة والعامة من الأسرة والقرابة والمدرسة والدائرة والشركاء وأصحاب المحلات والمجتمع العام.
فهذا عنصر آخر من العناصر الأساسية في حياة الإنسان ودخيل في سعادته، فإن الإنسان إنما يعيش في ضمن المجتمع لا محالة ولا يستغني عن حسن العلاقة مع أفراد المجتمع ليعيش سعيداً، فالانعزال عن الآخرين غير ممكن، ولو تيسر أوجب الكآبة والقلق وسوء الظن وعوارض أخرى، والارتباط السيء يعود على الإنسان بمثله ويحطمه داخلياً ويوجب له القلق والاضطراب ويفقده الراحة والطمأنينة.
كما أنه عنصر أساس في الفضيلة والرقي، لأن التعامل اللائق مع الآخرين اختبار حقيقي للإنسان في ما ينطوي عليه من الخصال الحسنة والكريمة، فالحياة الاجتماعية هي التي تبين جوهر الإنسان وتكشف عن مكنونه وتبين مكونات شخصيته.
إذاً على الإنسان أن يعرف مبادئ التعامل اللائق ويكتسب المهارات الاجتماعية المناسبة حتى يعيش سعيداً وراقياً.
وينبغي أن يعلم الإنسان أن ثلاثة أرباع السعادة نفسية وربعها مادية، فالمرء يفتقر في الراحة بحسب فطرته إلى أمور مادية محدودة وهي الأشياء التي فطر على الحاجة إليها كالكفاف من الزواج والطعام والمسكن والملبس، ولكن قد يحتاج إلى كثير من الغنى النفسي حتى يعيش السعادة والهدوء والطمأنينة بما يجده من الكفاف، فكم من شخص يعيش بإمكانات متواضعة حياة هانئة وسعيدة وهو مليء بالرضا والسعادة والتفاؤل والقناعة، على أنه قد يسعى لمزيد من الإمكانات من دون جشع وحرص وقلق ولا ارتكاب للمآثم ولا التجاء إلى الخطيئة، ينظر في الحياة إلى من هو دونه ويشكر الله تعالى على ما زيد له على ذلك، وآخر يعيش بإمكانات مضاعفة لكنه لا يشعر بالراحة والسعادة لأنه يشعر بنقصان ما لديه شعوراً حاداً ومؤذياً لإصابته بنوع من النهم في الرغبات المادية، فهو كالذي يشعر بالجوع والعطش مهما أكل وشرب، أو لمقارنته نفسه دوماً بمن هو أعلى منه في إمكاناته وتنافسه معه ووضعه إياه مثلاً أعلى لنفسه، أو للاهتمام المبالغ فيه بحديث الناس عنه وعن غيره وملاحظة تقديرهم أكثر لمن ملك إمكانات أعلى، فهو مهما يسعى أو يرتقي يعيش ساخطاً محتقراً لما لديه، تصيبه الكآبة والقلق والاضطراب وتراوده دائماً مشاعر الغبطة والحسد والعداء، وقد يستحل في الوصول إلى مزيد من الإمكانات المآثم والمحرمات ويرتكب المحظورات وقد لا يرضى من شؤون حياته إلا بعقله وأخلاقه وإيمانه وقدراته، فهو عند نفسه إنما تعوزه المادة والمال وينقصه الحظ ولا تساعده المقادير، ولا يعلم أن شقاءه إنما هو من جهة نفسه ونفسيته وليس لعوز مادّي حقيقي بتاتاً.
هذه عناصر أربعة أساسية في الحياة.
فعلى المرء أن يسعى إلى تحصيل هذه العناصر بمستوى ملائم منذ بداية رشده ويستعد لذلك من خلال مؤهلاته الذهنية والنفسية والسلوكية ليعيش السعادة المتاحة له والفضيلة اللائقة به في هذه الحياة، ولا يستسلم للهواجس الضارة والمؤذية والموجبة للكسل والإهمال واليأس، ولينظر إلى الحياة من علٍ ليلاحظ أصناف الناس وأحوالهم، وليعتبر بالتجارب السابقة ونصائح الأولياء ممن اتصف بالحكمة وعاش التجربة واكتسب الخبرة، وليتجنب المطامح غير الواقعية والمقارنات غير الموضوعية، ويعلم أن هناك حدوداً تفرضها مقادير الحياة ولا يسع لأحد أن يتجاوزها أو يقع فيما هو أضر منها، وأن على كل نعمة ضريبة وعن كل ابتلاء تخفيف، وسوف يقدّر الله سبحانه لمن ضاقت به الحياة ما اتفق له فيها، وقد قال سبحانه: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}([9]).
كما أن على الوالدين والأساتذة والمعلمين وسائر المؤثرين في الآخرين أن يقوّوا في الأولاد والتلاميذ وعامة الناس الوعي بهذه العناصر ويعرّفوهم بمقتضياتها وتطبيقاتها في حياتهم، ويضخّوا فيهم روح الرشد والعزيمة والاستعداد للمستقبل، ويساعدوهم على تكوين شخصية ملائمة.
وعلى الدولة والجهات والأفراد التي تملك إمكانات مناسبة لمعونة الآخرين أن تهتم بمساعدة الجيل الناشئ على تكوين نفسه ثقافياً ومعنوياً ومادياً حتى يوفق في تكوين حياة تتوفر على أساسيات السعادة
وإن الإنسان المؤمن ليجد في تعاليم الدين حافزاً على كل المعاني الحكيمة والراشدة المتقدمة ويجد في الإله الخالق سبحانه راعياً له في هذه الحياة فيتوكل عليه ويثق به وبما أودعه فيه من قدرات كامنة، ويجد في أئمة الدين مُثُلاً عليا يقتدى بها، ويعلم أن هذه الحياة على كل حال ليست النهاية ولا الغاية، ورُب خير انبثق من معاناة، ورُب راحة استتبعت عناءً، فلا ينبغي أن ييأس المرء من بعض النواقص والحرمان، ولا أن يشعر بالمرارة لتميز غيره في شيءٍ، وليتعامل مع بيئته وامكاناته وفق ما يتاح له بالحكمة، وقد قال سبحانه: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}([10])، وقال تعالى بعد الوصية بالصلاة: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّـهِ وَاذْكُرُوا اللَّـهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}([11])، وقال عز من قائل: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّـهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّـهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}([12]).
([1]) لاحظ في تفصيل ذلك كتاب (ضرورة المعرفة الدينية) ـــ من سلسلة منهج التثبت في الدين ـــ.
([2]) الشمس: 7 ـــ 8.
([3]) الرعد: 26.
([4]) العنكبوت: 64.
([5]) لاحظ في هذا السبب وما يليه: كتاب (اتجاه الدين في مناحي الحياة)، محور الدين والسعادة.
([6]) النمل:62.
([7]) الإنسان: 3.
([8]) إبراهيم: 34.
([9]) الشورى: 43.
([10]) البقرة: 269.
([11]) الجمعة: 10.
([12]) النساء: 32.