البداء في اللغة: الظهور، يقال: بدا، أي ظهر.
وأمّا اصطلاحاً، فهو: إظهار الله ما سبق في علمه المخزون، ذاك الذي خفي على عباده، ولا يحتسبون ظهوره، إلى الوجود؛ رحمةً بهم.
فكلّ ما كان في سابق علم الله تعالى، وأظهره لعباده ممّا لا يحتسبون ظهوره، فهو البداء، ومن ذلك نسخ التشريع، وهو معروف، ونسخ التكوين، كزيادة الأعمار والرزق وغير ذلك، والبداء بنسخ التكوين ألصق..
لفظ البداء في أحاديث السنة
أخرج البخاري قال: وحدثني محمد، حدثنا عبد الله بن رجاء، أخبرنا همام، عن إسحاق بن عبد الله، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي عمرة، أنّ أبا هريرة رضي الله عنه، حدثه: أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إنّ ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى، بدا لله عز وجل أن يبتليهم...» ([1]).
قال ابن حجر في الفتح: قوله «بدا لله» بتخفيف الدال المهملة، بغير همز: أي سبق في علم الله، فأراد إظهاره، وليس المراد أنّه ظهر له بعد أن كان خافياً؛ لأنّ ذلك محال في حق الله تعالى([2]).
قلت: ما ذكره الإمام ابن حجر العسقلاني في تفسير: «بدا لله» هو في الجملة عين ما يقوله مشهور الشيعة الأعظم في معنى البداء، حذو القذة بالقذة.
مثال تطبيقي للبداء في القرآن؛ قوم يونس عليه السلام
قال الله تعالى: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [3].
أمر الله تعالى يونس عليه السلام أن ينذر قومه بنزول العذاب إذا أصروا على الكفر، فلمّا اصرّوا ولم يستجيبوا، أنزل الله تعالى عليهم العذاب قريباً منهم، فلم يبق شكّ عند يونس عليه السلام في أنّهم معذّبون؛ فلقد دنى العذاب فعلاً، ورآه حقّاً، وتهيّأ عليه السلام لتركهم طرّاً؛ فلقد أخبره الله تعالى بذلك إذا أصرّوا..
لكنّهم – وهذا هو البداء - جأروا إلى الله تعالى؛ ففرّقوا بين الرضيع وأمّه، والأنعام وصغارها، والزوج وزوجته، وامتنعوا عن الطعام والشراب، ثمّ آبوا إلى الله قائلين: «يا حيّ حين لا حيّ، يا محيي الموتى، لا إله إلا أنت...» فكشف الله تعالى عنهم العذاب؛ أي أظهر سبحانه ممّا في مخزون علمه، ومكنون فضله، للتائبين من عباده، ما كان خافياً حتى على يونس عليه السلام.
وهنا علم يونس عليه السلام أنّ أمر الله في خلقه لا يدور فقط على العلم المبذول لأنبيائه ورسله، بل أيضاً على علمه المخزون الخفي الذي لا يعلمه إلاّ هو سبحانه؛ لذلك صرخ يونس منادياً: (في الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [4] ؛ إذ: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وعنده أم الكتاب).
قلت: فهذا هو البداء بلحمه وعظمه؛ وخلاصته فيما نحن فيه، أنّ الله تعالى قضـى بعذاب قوم يونس إذا أصرّوا؛ فلمّا أصرّوا أظهر غضبه فأنزل عذابه عليهم، لكن لما تابوا، بدا لله تعالى أنْ يظهر لهم عفوه ورحمته..؛ فالبداء هنا إظهار الله ما كان خافياً حتى على يونس من عفوه، بسبب توبة قومه النصوح..
أركان عقيدة البداء
الأوّل: لا مبدل لكلمات الله تعالى
فلقد كتب الله تعالى مقادير الخلائق، وما هم صائرون إليه، قبل خلق الخلق بكذا ألف سنة، وأودعه في أمّ الكتاب أو اللوح المحفوظ (فيه خلاف) جفّ القلم وطويت الصحف، لا مبدّل لكلماته تعالى، جملة ً أو تفصيلاً؛ فالله منذ الأزل عالم بتوبة قوم يونس، كما أنّه سبحانه عالم أنّهم سيصرّون على الكفر قبل التوبة، وهكذا بقيّة التفاصيل؛ لكونه أحاط بكلّ شيء علماً، لكن كيف يتلاءم هذا مع البَداء؟!.
الثاني: لله تعالى في شأن عباده، كتابان أو قضاءان:
الكتاب الأوّل: كتاب القضاء المحتوم، وهذا ثابت لا يتغيّر؛ لأنّ الله تعالى عالم بما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
وفيما نحن فيه فالله سبحانه عالم منذ الأزل بأنّ عاقبة قوم يونس التوبة، فلا تغيير.
الكتاب الثاني: كتاب القضاء الموقوف والمعلّق
وقد أطلق عليه بعض العلماء: كتاب المحو الإثبات، فلقد قضـى الله تعالى أن يعلّق الأمر على سعي العبد، فإن فعل العبد كذا فجزاؤه كذا، وإن فعل كذا فكذا..؛ فحسب المثال أعلاه؛ فإنْ أصر قوم يوم يونس على الكفر فجزاؤهم العذاب، وإنْ تابوا فالتمتع إلى حين، وقد حصل الأمران بنصّ القرآن، ومن هذا الباب قضيّة آجال العباد؛ فهناك أجلان: محتوم وموقوف.
الثالث: طويت الصحف وجفّ القلم
على كلّ من القضائين، القضاء المحتوم والقضاء المعلّق؛ فكلاهما ممّا جف القلم عليه في أم الكتاب (أو اللوح المحفوظ) وليس على المحتوم فقط، بهذا تندفع شبهة تنافي جفاف القلم مع المحو والإثبات.
وحاصل هذا، وقد جزم به بعض علماء الفريقين أنّ اللوح المحفوظ أو أم الكتاب، يضمّ مجموع الكتابين، كتاب القضاء المحتوم، وكتاب المحو والإثبات.
وذهب جماعة إلى أنّ ما في اللوح المحفوظ، أو أم الكتاب، لا يتغيّر، لا محو فيه ولا إثبات، لا يعلم بكل تفاصيله إلاّ الله تعالى، والذي فيه المحو والاثبات، هو ما أطلع الله تعالى عليه رسله وأنبيائه وملائكته..
قلت: لا ثمرة في هذا، بعد الاتفاق على الأركان، فالأشبه أنّه نزاع مصطلحات.
الرابع: البداء أعظم رحمة من الله لعباده الأشقياء
سيتضح في مطاوي هذه الرسالة أنّ الغرض من البداء هو المطوي في قوله سبحانه وتعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) [5].
----------------------
([1]) صحيح البخاري (ت: زهير النار) 4: 171، رقم: 3464. دار طوق النجاة.
([2]) فتح الباري 6: 502.
([3]) سورة يونس: 98.
([4]) سورة الأنبياء: 87.
([5]) سورة النساء: 31.