لابد من التفريق بين نظريات البشر وفلسفاتهم وبين العقل الفطري، فمعارف البشر ونظرياتهم قد تتعارض مع الوحي، أما العقل الفطري فلا يمكن أن يحدث بينه وبين الوحي أي تعارض وتضاد، ويبدو أن إنزال الفلسفات البشرية منزلة العقل أو تفسير العقل بالفلسفة هو الذي يدفع البعض للتساؤل عن وظيفة العقل اتجاه الوحي، فالتعارض الذي يحدث بين بعض النظريات وبين الوحي يدعو للسؤال عن السلطة؛ هل هي للوحي على العقل أم للعقل على الوحي؟
والظاهر أن الموقف السلبي من العقل عند بعض التيارات الإسلامية يعود إلى اختلاط الحدود الفاصلة بين العقل وبين الفلسفة، حيث قُدمت الفلسفة في الوسط الإسلامي بوصفها عقلاً، مما دفع البعض إلى رفض العقل لرفضهم للفلسفة، وقد ساهم الفلاسفة أنفسهم في إحداث هذا التطابق عندما فسروا آيات العقل والتعقل في القرآن بالفلسفة، يقول العلامة الطباطبائي: «وخلاصة القول إن الدين لا يدعو الإنسان إلا إلى نيل الحقائق الإلهية بشعوره الاستدلالي الذي جهز به وهذا هو بالذات ما يعبر عنه بالفلسفة الإلهية.. فدع عنك هذه الأقاويل وتيقن أن الدين لا يدعو إلا إلى الفلسفة الإلهية وهي الحصول على المعارف الإلهية عن حجة عقلية» (علي والفلسفة الإلهية ص 13).
ومن هنا كان للفلاسفة الحق في تأويل النصوص الدينية لاختصاصهم بالعلوم العقلية، يقول الدكتور محمد بيصار: «ولذلك جاز للفلاسفة أن يؤولوا نصوص الشريعة لأنهم هم الذين يفهمون مراميها بنور الحقيقة العليا التي حصلوا عليها واحتوتها عقولهم» (الوجود والخلود في فلسفة ابن رشد ص 96).
ويدافع ابن رشد عن ضرورة التأويل بما يتناسب مع الدليل الفلسفي بقوله: «فإن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما، فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سُكت عنه في الشرع أو عرّف به. فإن كان مما قد سكت عنه فلا تعارض هناك، وهو بمنزلة ماسكت عنه من الأحكام، فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي. وإن كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقاً لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفاً. فإن كان موافقاً، فلا قول هناك. وإن كان مخالفاً، طلب هنالك تأويله» ( فصل المقال ص 35).
وهذا التطابق بين العقل وبين الفلسفة، دفع الرافضين لها إلى رفض العقل نفسه؛ لأن الفلسفة في نظرهم ترتكز على رؤية معرفية مخالفة لرؤية الإسلام، الأمر الذي يجعل الفيلسوف مضطراً إلى تأويل النصوص بما يتوافق مع تلك التصورات الفلسفية، وهذا ما يرفضه علماء الشريعة بوصفه تلاعباً في مرادات الله، ولذا تشكل عند البعض موقف سلبي من العقل حتى لا يكون مدخلاً للفلسفة. ويشير العلامة الطباطبائي إلى تورط الفلاسفة في تأويل النصوص بقوله: «وأما الفلاسفة، فقد عرض لهم ما عرض للمتكلمين من المفسرين، من الوقوع في ورطة التطبيق، وتأويل الآيات المخالفة بظاهرها للمسلمات في فنون الفلسفة بالمعنى الأعم، أعني: الرياضيات والطبيعيات والإلهيات والحكمة العملية، وخاصة المشائين، وقد تأولوا الآيات الواردة في حقائق ما وراء الطبيعة وآيات الخلقة وحدوث السماوات والأرض» (الميزان ص 6).
ويقول العلامة ميرزا مهدي الاصفهاني في اعتراضه على توسط الفلسفة اليونانية لفهم الدين: «وزعموا أن فهم مرادات الأئمة (عليهم السلام) يتوقف على تعلم العلوم اليونانية وهذا غير صحيح، لأن حمل ألفاظ الكتاب والسنة على المعاني الاصطلاحية وتوقف هداية البشر على تعلمها بعد بداهة جهل عامة الأمة بتلك الاصطلاحات إلا قليل منهم، مساوق لخروج كلام الله تعالى وكلام رسوله عن طريق العقلاء وإحالتهم تكميل الأمة إلى من يعلم الفلسفة اليونانية، وهذا نقض غرض البعثة وهدم آثار النبوة والرسالة وهو أشنع الظلم» (أبواب الهدى ص 99)
وبذلك يمكننا القول إن الموقف السلبي من العقل تولد عند البعض من موقفهم السلبي من الفلسفة، إلا أن الموقف السليم هو العمل على فك الارتباط بين العقل وبين الفلسفة، ففي الوقت الذي نؤمن فيه بحجية العقل نرفض أن تكون الفلسفة البشرية هي التعبير الحصري للعقل.
وعليه لا يمكن تصور أي نوع من التعارض والتضاد بين الوحي وبين العقل، فالوحي في حقيقته ليس إلا إثارة وتنبيه للعقل الفطري، ولذلك وصف أمير المؤمنين (عليه السلام) مهمة الأنبياء بقوله: (فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول)، فالخطاب القرآني لم يكن ناظراً إلى تأسيس معارف غير موجودة في واقع الفطرة وإنما جاء بلسان التذكير للعلم والمعرفة التي حُجبت بالغفلة، فكان لسان خطابه (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ)، والتذكير هنا هو التذكير بأحكام العقول الفطرية، فيكون القرآن إثارة للعقول وتنبيهاً لواقع تلك الأحكام التي احتجبت بدواعي الهوى والغفلة.
يقول الأمام الكاظم (عليه السلام) في بيان العلاقة بين الوحي والعقل: « إِنَّ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ حُجَّةً ظَاهِرَةً وَحُجَّةً بَاطِنَةً فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْأَئِمَّةُ وَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَالْعُقُول» (الكافي ج1 ص 16) ويمكن الاستفادة من هذا الحديث بأن ما جاء به الأنبياء والرسل والأئمة من تعاليم ليس إلا حضوراً حسياً للعقل، والعقل ليس إلا حضوراً معنوياً لأقوالهم، ولا أظن أن هناك وصفاً يصف عمق العلاقة بين نصوص الإسلام وبين العقل أكثر مما عبر به الإمام الكاظم (عليه السلام) حيث جعل الشيئين شيئاً واحداً، أو جعل كل واحد منهما معبراً عن الآخر، وعليه حتى لو كان هناك تمايز بين العقل والنص إلا أنه تمايز بلحاظ موضع التجلي والظهور، وليس تمايزاً في المضمون والجوهر، فالأول عقل تجلى في النص، والثاني نص تجلى في العقل، ومن هنا فإن التحقيق المنهجي لا بد أن يبدأ برفع الحدود الغامضة بين العقل والنص؛ لأن ملاحظة المضمون المشترك هو الكفيل بتحقيق الإطار المعرفي في الإسلام.
وبهذا التداخل الصميمي الذي أكده الإمام الكاظم (عليه السلام)، لا نتصور معرفة إسلامية لا يساهم العقل والنص في تكوينها وإنتاجها، فلا تكون المعرفة هي معرفة وحيانية خالصة ولا عقلية مجردة، وإنما معرفة صنعها العقل بعد أن استرشد بالوحي واستبصر ببصائره وتكامل به.
والخطوة الطبيعية لتحقيق علاقة تكاملية بين العقل والنص تبدأ بإرجاع الاعتبار للعقل، ويتحقق ذلك بالنظر للقرآن على أنه خطاب للإنسان بوصفه عاقلاً، وحينها لا يسع المسلم التمسك بالنص دون العقل، فمن المستحيل أن يخص الله الإنسان بخطاب لكونه عاقلاً ثم يصادر هذا العقل الذي كان موجباً لتحقق هذا الخطاب، ومن هنا لا يمكن قبول كل هذه الهواجس التي عبرت عنها بعض الاتجاهات من العقل.
وعليه لابد من التعرف على العقل من النص؛ لأن ذلك يقودنا إلى معرفة النص أيضاً، فتارة يفهم النص على أساس أنه بديل عن العقل الإنساني، وحينها تكون أي محاولة لاستخدام العقل هي خروج عن دائرة النص. وتارة يفهم النص بوصفه تعزيزاً للعقل ودفعه إلى مزيد من التفكر والتعقل، وحينها تكون أي محاولة للتمسك بالنص بدون عقل هي خروج عن دائرة النص نفسه، الأمر الذي يدعو إلى إعادة فهم النص بالشكل الذي يكون العقل حاضراً فيه دوماً.
وإذا نظرنا للنص القرآني نجد أن آياته تدور على نقطة مركزية تشكل محوراً للقرآن، وهي الأمر الدائم بالعقل، والتعقل، والتدبر، والتفكر، في مئات من الآيات؛ مما يكشف عن دور العقل وأهميته كمحور لا تكتمل المعرفة القرآنية إلا به، قال تعالى: {إنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. وقال تعالى: {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. وقال تعالى: {...قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}. وقال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إليكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}. وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}. وقال: {...كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. وقال: {كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
وغيرها من الآيات الدالة على كون النص يرتكز على العقل بوصفه محوراً أساسياً لا تكتمل المعرفة القرآنية إلا به، وبذلك يكون العقل حجة مطلقة لا يصدر منه الخطأ والانحراف، ولا يمكن التسليم بذلك إلا إذا سلمنا بكونه نوراً أودعه الله في قلب الإنسان، وإلا كيف يدعو الله إلى التعقل مطلقاً والعقل قد يصدر منه الخطأ والانحراف؟
ومن الناحية الأخرى إذا نظرنا لآيات القرآن لنتعرف على طبيعة النص وطبيعة المعاني التي يحملها، نجد أنه يصفها أيضاً بكونها نوراً. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إليكُمْ نُوراً مُّبِيناً}. وقال: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. وغير ذلك من الآيات.
فإذا كان العقل هو نور إلهي أفاضه الله على قلب الإنسان لكي يكشف به الحقائق، وهو غير النفس وميولاتها وأهوائها ورغباتها، وفي نفس الوقت وصف القرآن نفسه بأنه نور من الله لهداية الإنسان، فنتوصل من ذلك إلى كون القرآن ليس إلا تذكيراً بما فطر الله به العقول، قال تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}، ولولا المطابقة بين الوحي وما فطر عليه الإنسان لما صدق الإنسان بالأنبياء، وبذلك نفهم أن حقائق القرآن، وقيمه الكبرى، وغاياته العليا، هي حقائق مودعة في الإنسان وجاء الوحي ليذكره بها.
يقول العلامة ميرزا الأصفهاني (قدس سره) مبيناً علاقة الوحي بالعقل: «فتكون الشريعة مؤسسةً على الأحكام العقلية التي تكون العقول حيثُ ذاتُها الكشف عن وجوبها وحرمتها الذاتية، أو المعللة بالحسن والقبح اللذين حيثُ ذاتُها الكشف عنهما في بعض الأفعال، فيكون القرآن المجيد والرسول الأكرم والأئمة المعصومون مذكرين بهذه الأحكام العقلية. فكل فعل يكون العقل بذاته كاشفاً عن وجوبه أو حرمته ذاتاً أو معللاً بحسنه وقبحه عن العاقل القادر المالك للرأي بفعله وتركه، يكون هذا العقل حجةً إلهية على هذه الأحكام، لحجيته وحاكميته بذاته على عصمته، وأن المكشوف به عين الواقع، فهو الحجة على أن العقل الواجب، والحرام بالذات أو للحسن والقبح، واجب وحرام عند الله وعند أنبيائه ورسله، كيف والحق جلَّت عظمتُه أرشد إلى هذه العقول، واحتجَّ بها على البشر وهو عين رسوله الذي هو لسانه ونفسه تعالى شأنه. وعلى هذا الأساس، قامت علوم الدين والشرائع على أحكام تلك العقول، التي هي حجج إلهية لكل عاقل، فهي الحجة بذاتها على كل ما تكشفه، كما أن العلم الإلهي حجة إلهية على كل ما يكشفه». (المدرسي، التشريع الإسلامي ج1، ص 73)
وعلى ذلك تكون حقائق القرآن هي ذاتها الحقائق التي يتحرك على أساسها العقل، ودور القرآن هو تذكير العقل وتنبيهه بشكل دائم بتلك الحقائق، ولو لا ذلك لاستأثرت النفس بما فيها من أهواء وشهوات بعقل الإنسان وحرفته عن مسار الحق.
فإذا كانت معارف القرآن ترتكز على أصول فطرية، وكانت مهمة القرآن هي التذكير والتنبيه بتلك الأصول، فلابد حينها من بيان الأسباب التي تحجب الإنسان عن فطرته أو تمنعه من الالتزام بها، ولذا صرحت آيات القرآن أيضاً بكون الهوى والشهوات هي المسؤولة عن كل انحراف يصيب الإنسان فكرياً أو سلوكياً، وفي هذا الحالة يكون التعقل والتفكر نتيجة طبيعة عندما يثار عقل الإنسان وتنكشف عنه حجب الجهل والهوى، فينطلق للتعرف على بواطن النص بما فيه من حِكم، وينطلق لمعرفة آيات الوجود بما فيها من سنن، وبذلك يصبح دور العقل في ما يتعلق بالوحي هو الإقرار والتصديق بما فيه بعد تذكيره وتنبيهه إليها، وهناك دور أخر للعقل هو التعرف على الموضوعات الخارجية وتحديد الموقف المناسب منها، وذلك من خلال ضبط سلوك الإنسان ومواقفه الحياتية بما يتناسب مع حقائق الوحي وبصائره.
وإذا جاز لنا التعبير يمكننا القول إن الإنسان يحمل في واقع فطرته خريطة متكاملة ومتشابكة من الحقائق والقيم تمثل قاعدة بيانات أولية، ولو لا وجود تلك الحقائق الفطرية لما تمكن الإنسان من الاهتداء للحق ولما أمكنه التمييز بين الأشياء، ومن الطبيعي أن تكون توجيهات القرآن مرتكزة على تلك القيم الفطرية.