تُعتبر ظاهرة البيوت العنكبوتية من الظواهر الواسعة الانتشار خاصة في الوقت الحاضر، وتتجسد في الكثير من البيوت العظيمة المزخرفة والواسعة، والتي تُبهر الناظر إليها إعجاباً في مظهرها.
لكن مع الأسف الكثير منها خاوية في محتواها الأسري والاجتماعي، وأشبه ما تكون ببيت العنكبوت في تناسقه وهندسة بنائه، مع خوائه من الداخل، فهي خاوية من أرواح تجتمع على الحب والقيم السامية والترابط الأسري! فلكل منهم منهج حياة، يقوم على مبدأ الانتفاع والمصلحة ممن يشاركه السكن، دون اعتبار لكيان الأسرة، فغياب الأب وتشتت الأسرة، وانشغال الأم، وازدياد الفجوة بين الآباء والأبناء، مع انعدام التواصل والاحترام: كلها أمور تؤكد عنكبوتية الكثير من البيوت التي لا يجمع من فيها غير مكان السكن. فلكل فرد من أفراد الأسرة مشاغله وهمومه واهتماماته المستقلة والمنعزلة عن باقي أفراد الأسرة؛ لتُخرج هذه الأسرة للمجتمع بيوتاً عنكبوتية بأشكال مختلفة، لكن تجمعها ملامح مشتركة، ويمكن حصر أهم ملامح البيوت العنكبوتية في الآتي:
العنف الأسري: سواء العنف الجسدي المتمثل في الضرب، وسوء المعاملة بين الوالدين، أو بين الوالدين والأبناء، أو بين الأبناء فيما بينهم، أسوة بتعامل والديهم. وقد يعتقد الوالدان أن أهم عناصر التربية الفعالة هو: العقاب الرادع لأي سلوك خاطئ، أو هفوة عابرة، فيتخذان من الضرب منهجاً تربوياً، وكذلك يدفعهم الاعتقاد بأن الذكر بوجه خاص لكي يكون رجلاً قوياً في شخصيته، فإن التعامل معه لابد أن يكون بقسوة وعنف، أو نتيجة التعرض لضغوط مختلفة ومشاكل أسرية تعمل على شحن الجو العائلي بالسلبية، وبالتالي يتم تفريغ الضغوط مع الأسف في الأبناء، وقد يكون العنف النفسي هو الأشد ألماً والذي يحدث في الكثير من البيوت، وتتنوع أساليب العنف النفسي الأسري بين الإساءة اللفظية أو التفضيل بين الإخوة بالتفرقة في التعامل، أو حتى الإهمال والرفض الأسري لبعض الأولاد، وحرمانهم من بعض حقوقهم والقسوة عليهم، أو إخافتهم وتهديدهم تهديداً يهز الأمن النفسي لهم، وهو نذير خطر لا على الأسرة فحسب، بل على المجتمع بأكمله، فأسرة لم تجمع شتات أبنائها بالرحمة والمودة، واتبعت منهج العنف والتجريح فيما بينهم رغم روابط الدم بينهم، فكيف ستكون مخرجاتهم السلوكية نحو مجتمعهم الكبير الذي لا رابط بينهم وبين أفراده؟
الجفاف العاطفي: قد يكون نتيجة للتعامل الصارم والتفكك الأسري، وقد يكون أيضاً سبب لهما. فهي حلقة مفرغة كل منها يؤدي للآخر، والنتيجة تظهر في بناء العلاقة الأسرية بين أفرادها على المصالح والماديات، لا على التراحم والمحبة، مما يحيل الجو الأسري العام للتفكك، بدل الدفء العاطفي، وهو ينتقل بشكل تلقائي من خلال العلاقة بين الوالدين إلى العلاقة الأسرية بشكل عام، وينتج أبناء في حالة من الجوع العاطفي، والذي يدفعهم بشكل غير مباشر للبحث عن إشباع هذا الجوع بالعلاقات خارج الأسرة، وقد يكون هذا الابن موفقاً في إيجاد أصدقاء يشبعون حاجته العاطفية، وحاجته للانتماء والمكانة الاجتماعية بينهم، مما يعوضه عن أجواء الحرمان العاطفي، والتفكك الأسري التي يعاني منها، أما من لا يحالفه الحظ في أصدقاء على جانب من الخلق، فإنه قد ينجذب لرفقاء سوء ليكون فرداً أساسياً بينهم، إن لم يكن قائدهم. وقد تساهم التكنولوجيا في إيجاد علاقات إلكترونية تجرهم لأبواب من الشر دون ناصح من الأهل.
تفكك الروابط الاجتماعية: وهي سلسلة طبيعية وممتدة من أثر التفكك الأسري، فمن الطبيعي أن تكون النتيجة تقطع الروابط الاجتماعية، فالأسرة نواة المجتمع وتفككها: هو تفكك في نطاق العائلة الممتدة لنشاهد بشكل جلي قطيعة الرحم والإساءة للأهل والأرحام من قبل الوالدين والأبناء على أثره يهرعون ويتعلمون، وامتدت كذلك لأبعد من الأهل والأقارب ليصبح التهاون باحترام المعلم مثلاً والأكبر سناً بشكل عام، سمة واضحة المعالم لهذا الجيل، وهذه السمة وغيرها هي نتاج البيئة الأسرية التي ما تلبث أن تحصد ما زرعت، فهي أيضاً حلقة مفرغة تبدأ من البيت والأسرة الصغيرة، لتمتد بأثرها على المجتمع وتعود مرة أخرى بآثارها السلبية على الأبناء نحو آبائهم خاصة، فكما تعلموا منهم فإنهم يبدؤون بالتطبيق عليهم بعقوقهم.
القدوة السلبية: إن محور مشكلة البيوت العنكبوتية غياب القدوة الصالحة، التي تجمع وتؤلف قلوب ساكنيها لا بالكلمات فحسب، بل تجعل السلوك الإيجابي جوهر حركاتها وسكناتها، فما يصدر عن القدوة وهما في الغالب من الوالدين من كلمات سب أو شتم، وكذلك معاملة قاسية وألفاظ غير لائقة، يطلقها أحدهم على الأبناء هي بمثابة ضوء أخضر يجيز للأبناء استخدام مثل هذه الكلمات والسلوكيات. وقد يستنكر الوالدان بعد فترة سماعها منهم، ويعاقبان عليها، ولا يدركان أنهما كانا مصدراً لها، حتى وإن اعتقدا خطئاً أن لهما سلطةً تؤهلهما لأن يتعاملا كما يشاءان، فهما لم يدركا أنهما قدوةً لا بأمرهما، بل بلفظهما وسلوكهما، فيضرب الأب الأم ويستنكر عنف الأبناء، ويعلمهم القسوة والجفاء بسلوكه معهم، ويريد أن يحصد الرحمة والعطاء منهم، ولا يعلم أن الأرض تنبت ما يُلقى فيها من البذور، فكيف لزارع الحنظل أن يحصد أطيب الثمر!
لن نعالج عنكبوتية بيوتنا، إلا بزيادة وعي الأسرة بدورها، نحو أفرادها وطبيعة المشكلات المتجددة التي تتعرض لها المنظومة الأسرية في كل زمان ومع كل تطور؛ لتواكب هذا التطور مع اهتمامها بعلاج المشكلات داخل إطار الأسرة، بأساليب تتناسب مع الأسرة ككل، ولا تتماشى مع مصلحة أحدهم على حساب الباقين، وأن يكون منهجها ربانياً في أهدافه ومحتواه، بالإضافة إلى الانشغال بالأبناء لا عنهم؛ ليكون محور اهتمام الوالدين خاصة بمن في البيت لا بالبيت نفسه ومظهره، وبذلك نزيل رواسب التفكك الأسري من بيوتنا، حتى لا تكون بيوتنا كبيت العنكبوت في تفككها وشتات قلوب أفرادها، فخيوط بيت العنكبوت رغم رقتها، إلا أنها قوية وماكنة وتنسج بدقة عالية، لتُشكل بيتا في غاية الهندسة، ومع ذلك تحوي بين جنباته أرواحاً متشتتة، لم يجمعها البيت ذو الشكل الهندسي بديع الدقة والإتقان، لذا فهو أوهن البيوت كما وُصف في القرآن الكريم، وضُرب المثل بوهنه الناتج من تفككه الأسري والاجتماعي، لا من ضعف بنائه الخارجي، فالبيوت المترابطة تُنسج بخيوط الإيمان، وتُبنى بتماسك أفرادها، وتستمر بإحسانهم لبعضهم ومودتهم، فالعبرة لا بكيفية البناء، بل نوعية ساكنيه، لتكون بيوتنا صامدة وقوية في وجه جميع التحديات.
*رانيا طه الودية